هناك منطلقات واضحة، تثير الاهتمام في رواية (سمبا) للكاتب أسامة الشيخ إدريس ..
والتي جاءت في مائتين وستة وخمسين
صفحة، صادرة عن دار هيئة الخرطوم للثقافة والنشر . في العام ٢٠١٧م، يزينها غلاف بريشة التشكيلي المبدع الراحل إبراهيم العوام، الذي كان لي وبمشاركة أخي وصديقي الشاعر الفذ الراحل محمد محي الدين عبدالقادر (رحمه الله رحمة واسعة) حوار معه حول تجربته التشكيلية، ومدرسة الواحد، ومواضيع أخرى مهمة، أتمنى أن اتمكن من إعادة نشره في صفحتي بالفيس، وفي مدونتي كذلك. أحسب أن رواية سمبا للكاتب الروائي أسامة الشيخ إدريس نص مهم جدا، يسعى بلطف وبراعة لتجسير الهوة بين الاثنيات المكونة للنسيج السوداني، ويذيب الفواصل بينها، ويدلل على أصالة التعايش السمح بين الناس في السودان، على اختلاف أجناسهم، ويؤسس للبنة متينة في بناء الهوية السودانية. فالعلاقة بين الناس فيها وتعايشهم وصراعهم، وقبول بعضهم بعضا أو العكس، مما تناوله كثير من الكتاب لأهميته وضرورته، ولكن هل وفقوا في هذا التناول؟ لن أجيب! ولكنني أحسب أن أسامة شيخ إدريس قد قطع شوطا بعيدا في هذا المضمار ، في روايته (سمبا). بشكل غير مباشر وبعفوية، يستشف من خلالها القارئ سماحة الروح ، التي سكنت السودان عصورا، جعلته يحتفظ بالمليون ميل مربع متماسكا في إلفة فريدة، هذا قبل تدخل الأصابع المفسدة للساسة ذوي الأغراض الخاصة والرؤى الضيقة.
تتماس هذه الرواية، وتستلهم أحداث معسكر العليفون للخدمة الإلزامية، والتي وقعت في أبريل من العام ١٩٩٨م، والتي فقد فيها السودان ما يقارب مائة وأربعين مجندا، من الشباب الكادحين المهمشين، الذين اصطادتهم عربات العسكر (الكشة) بالإكراه عنوة.
بالرغم من وصف الكاتب للكمبو بأنه (جزيرة معزولة لا تقف عندها السفن) في صفحة (٨٢)، إلا أنه يقود القارئ لغير هذا الوصف، عندما يتعاطف مع صلة (سمبا) وأسرتها مع أهل النواهضة.
ويستشرف الكاتب الصراع الذي يدور بين سكان الكمبو وسكان قرية النواهضة، والذي تفجره الإدارة الفاسدة لشؤون الحياة. ولا يخفي هذا الصراع، الود العميق الذي يلف مشاعر الناس هناك لبعضهم بعضا، فهذا راسب نازل من الأجداد، بناة حضارة البلاد.
لقد ابتدرت الكاتبة الروائية السودانية أميمة عبدالله هذا الموضوع الموجع، في روايتها (ذاكرة مشلولة) ٢٠٠٥م، والتي قرأت ما كتب عنها، ولم أحصل على نسخة منها للأسف، لأنه تمت محاصرتها آنذاك.
تتميز شخصيات رواية (سمبا) بوضوح القسمات، والملامح الجسدية، والنفسية والاجتماعية، ومن بين هذه الشخصيات:
- سمبا فندو، امرأة طيبة خيرة، مشبعة بروح الأمومة، وحب الخير للناس.
- حواية شقيقة سمبا. امرأة بريئة وعفوية.
- إسحق الحلاق، زوج حواية. حلاق متجول يكافح من اجل أسرته، ويخدم الناس بكل أريحية.
- محمد أول ابن حواية.
- محمد ثاني ابن حواية.
- صديقة خليل.. أم الراوي. امراة عطوفة تحب الناس وتسعد بمساعدة الآخرين.
- صالحه الجارة، امرأة ودودة طيبة، لا تخلو من براءة وعفوية، وهناك شخوص أخرى، تتحرك في أماكن ريفية، وتتماهي معها في انسجام تام، ومن بين هذه الأماكن:
_ قرية النواهضة.
_ الكمبو.
_ الشعدناب.
_ العوامرة.
_ قنطرة الماحي.
_ القوز الفوق.
_ القوز التحتاني.
- معسكر الجميزة.
- معسكر الميرا.
- أماكن أخرى، تمور بالحركة والحياة.
***
يمكنني القول بعد القراءة الأولى لهذه الرواية، إن الكاتب قد وفق جدا في سرده، وأنجز روايته بحرفية عالية، ويتمثل ذلك في:
- اصطياد لوحات ومشاهد نابضة بالدلالات العميقة، من خلال لغة لا تخلو من شعرية ورواء موسيقي، ودقة في تصوير المرئيات والأحاسيس، كما في:
_ وصف طقس الختان .. ص ٤٢ - ٤٥.
_ رصد الصبية عند استراقهم للنظر ليلة الدخلة.
- توظيف ما يشبه تدفق الرؤى، والتداعي الحر، وتمازج موجات السرد والتحامها، في إيقاع يتسارع ويبطيء متسقا مع الأحداث.
- وتشبيك الصور المشبعة بتفاصيل الأمكنة، في أزمنة خاطفة،( تمر على عجل في بانوراما تثري دينمايكية السرد، وتستلف الأدوات السحرية المبهرة للحكواتي والتروبادور والهداي.
- استخدام أسلوب التذكر، واستدعاء الماضي، في مواقيت بعينها تتطلب هذا الأسلوب.
- معالجة المسكوت عنه في صور حصيفة مراوغة، وبدهاء وحذر. يتمثل هذا في موقف الراوي مع رباب، في صفحة ١٢٥. (توشك أن تلامس أطراف السحاب بأصابع قدميها وتستكين على شرفاته ...... جعلتني ربانها الذي يجيد فن التحليق برغم صغر سني كنت ماهرا في قيادة دفتها، التي تريد شق السحاب بكامل قوتها). يستدعي إلى الذاكرة حرفية شاعر الدوباي الحاردلو، ودقة الترميز في الشعر الشعبي: ( هنهينا بسونو الدغش بشيش) ..( تطلق آهاتها وتاخذ شهيقا عميقا يجعلها تصمد طويلا عند هذا العمق البعيد)
إنني على قناعة تامة بما ذكره ابن رشيق القيرواني صاحب (العمدة) في قوله:
(من ألف كتابا فقد استهدف). وهذا ما يصدق على (سمبا)، فهي لم تخل من الهنات اللغوية والموضوعية، التي يعتبر تجنبها عنصرا مهما وعاملا جوهريا في نضج وتكامل العمل الروائي، ومنها هذه الملاحظات:
- يتحسس القاريء قناعاته الوجودية الإنسانية الفطرية، وجيناته المركوزة في كيانه، عند خطاب الأم في الرواية، والذي ربما لا ينسجم مع مكانتها في المجتمع.
- كم أنت ماكرة. ص (١٩).
- كان لأمي وجهان. ص( ٣١)
- صالحة وأمي كعنزتين تتناطحان فقط من أجل العراك.. ص (٣٧)
- التصوير الدقيق وشحن اللحظات بتوتر حميم.
- بعض الهنات الطفيفة في التحرير ..الفاصلة في أول السطر
- اخطاء إملائية ونحوية،
مثل:
- في هذا المعسكر ذو السياج. ص (١٨)
- ضبط لفظ (جدتي) في الإهداء، بكسر الجيم. ص (١١)
- (وأسماءهم) ص (٩) الصواب وأسماؤهم
- (ويستمرءون). ص (٢٢) الصواب ويستمرئون
- و(تملأها بالفوضى) . ص (٢٤) والصواب وتملؤها.
- (السكسك ذوالفصوص)، ص (٤٨) والصواب (ذي الفصوص).
***
- عدم استخدام منهج واضح في توظيف الألفاظ وتسمية الأشياء
- يذكر اللفظ الفصيح السرج= للعجلة عوضا عن المقعد.
- واليقطين (فصيح) =عوضا عن القرع.
- القطيعة، ص (٣٤) وهي في الفصيح الهِجرانُ والصَّدُّ ومنه تَرْكُ البِر والإحسان إِلى الأهل والأقارب وهي لفظ عامي ينطق بالقاف اليمنية = عوضا عن النميمة والغيبة والبهتان.
***
- تكرار عبارات (أفرغ ويستفرغ وإفراغ) بكثرة وبصورة ملفتة قد يشي بفقر القاموس اللغوي عند الكاتب، وهذا ينتفي بقراءة الرواية ومعرفة مدى تشبع الكاتب بتفاصيل التفاصيل، فهو ابن بيئته، التي بمقدورها رفده بكم مبهر من ينابيع المفردات التي يغرف منها ما يشاء.
***
* عينة (النترة) ليست في أواخر الخريف، كما يصفها كاتب الرواية، بل هي في الثاني والعشرين شهر يوليو، في أول الخريف. ص (55).
** تلخيص وظائف أبناء قرية النواهضة عند ذهابهم للعاصمة في (بيع اعواد الأراك، والكتب الدينية، ودواوين الشعر المنسوخة، وكلمات الأغاني المشهورة، والأمشاط والمناديل...ويعودون (يرتدون ثياب أولاد العاصمة، ويختالون في غرور أجوف) ص (٤٨) ... تلخيص لا يصح إطلاقه على العموم.
لقد نجح الكاتب في ذكر ما يجري في معسكر الخدمة الوطنية بوصف متنوع وحي، يحيط بأدق تفاصيله. إنني
أجد أن خيال الكاتب مطلق العنان وجامح، يرتاد الأماكن مع شخوصه، في أزمان تحتاج لحضور واحتشاد لكل الحواس، وهذا مما يسعفه، ويعينه على لفت انتباه القاريء، ويشده إلى بؤر مثيرة للتعاطف، مما يبعد الرتابة والملل عن تتبع ما يجري من احداث في السرد المتماسك.
يلاحظ القارىء احتشاد الأحداث والصور، والشخوص في أماكن تندغم بكل سماتها في أزمنة تضيء وتعتم , وقد تكتسي بألوان عرف الكاتب كيفية مزجها وتجانسها، دون أن تتنافر .
يمكننا أن نلاحظ بعض الملمح لأسلوب حنا مينا، وبخاصة في (الشراع والعاصفة)، وذلك في تعدد الصور وجماليتها العالية. والجمل القصيرة، وإحكام عبارات الحوار، والاقتصاد في استخدامها. وبخاصة ما يدور بين الطروسي وخليل العريان، عن قبول النسق الجديد من صيد الأسماك بالديناميت ورفضه، وما يدور بين سعيد ومنصور النواهضي حول ذهاب سلمى للدراسة بجامعة الخرطوم، يحمل في ثناياه جوهر هذا الصراع، بين القديم والجديد. ص ١٥٥- ١٥٧.
وما بين أم حسن والطروسي ص ١١٣_ ١١٤ ، في وصف اللحظات الحميمة.
يخلص أسامة في توصيف ورسم شخوص روايته من خلال عدسة الراوي العليم، ويوفق في هذا. بينما يصبو القارىء لإسقاطات ضوئية كاشفة على هذه الشخصيات من مصادر أخرى. تعرض تلك الشخصيات من زوايا جسدية ونفسية واجتماعية، إعمالا للأدوات الاجرائية الضرورية لرصد صور شخصيات الرواية في السرد، والتي أشار إليها أولمان: مثل النقد والتفسير ، والتفكيك، والتعليق، والإحصاء، والتعليل، والمقارنة، والتصنيف، والاستقصاء، والاستنتاج والتقييم .. الخ. وذلك حتى لا تصبح الشخصيات، في درجة صفر في الكتابة، والتي ذكرها رولان بارت، حيث تكون الشخصيات محايدة، وخالية من الزخرفة والملحقات الضرورية، لسبر أغوارها في خط السرد الروائي. الشيء الذي أفلح فيه الكاتب، وهو يصف الأماكن التي تدور فيها أحداث الرواية، فصورها متعددة، ومشبعة باللقطات المتنوعة الزوايا.
من حق الكاتب أن يحلق بخياله وينوع في أدوات سرده، ويعيد صياغة وترتيب العالم كما يشاء، منطلقا من نزوع نحو الجمال، والبحث عن الرؤى التي قد يدركها، وقد تفر منفلتة منه. وهذا ما فعله الكاتب أسامة شيخ إدريس بكل طاقته في هذا النص، والذي هو مصهر لحالات متعددة، رصدها فاقتحمت فضاءه السردي، لتكتبه على هذا النسق الممتع.
نجح الكاتب في توظيف تقنية أنسنة الأشياء في ص (١٣٦)
(عندما توقف المطر وزال إحتقان السماء، بدت الأرض كمن تطوع لتحمل العقاب عن ذنب لم يرتكبه. الأرض السوداء المبتلة بقيت هامدة وكئيبة، وغير عابئة بما تساقط عليها من الأوراق الميتة ..لا تلقي بالا لديدان الأرض التي راحت تنهش جسدها ...)
استمتعت جدا بقراءة هذه الرواية(سمبا) فهي بنت الحياة السودانية الخالصة.
تفاصيل دقيقة كثيرة تشتجر، وتتمدد أفرعها في مسار السرد، وتتدفق سلسالا من الصور ، تتناسل فتنتج حيوات تمور، ويتحرك معها نبض القاريء، إذ تهبش فيه هذه الحيوات والمواقف، التي لا شك أنه يألفها ويتماس معها، ذكريات عالقة بالذات، تستيقظ منتعشة جزلى، عند قراءة هذه الرواية المتدفقة بالحيوية، والمشبعة بماء السرد، الذي أحسبه قد تجاوز ما حذر منه جرار جنيت، وما أكده الروائي الفرنسي آلان روب غرييه، في كتابه (نحو رواية جديدة) من أن ازدهار الرواية ليس سوى تدفق كتابي يؤدي إلى أزمة السرود .. وهذا لخشيته من أن يتحول السرد إلى لعبة شكلانية محضة.