بسم
الله الرَّحمن الرَّحيم
ملامح الشَّخْصِية
السُّودانية
فِي شِعر طَه أحمد مُحمَّد
علي الشَّلْهَمَة (1)
(1911- 1978م)
((((***)))))
محمَّد الفاتح يوسُف أبُوعاقلة
إنَّ رصد الشَّاعر الشَّعبي السوداني طه
أحمد محمَّد علي الشَّلْهمة (رحمه الله)، لسمات الشَّخصية السُّودانية، رصد تتجسد
فيه كل أبعاد خصائص وصفات الإنسان، الذي خَبِره أهل السُّودان، والتي كثيراً ما
يطربون لسماعها، ويتلذذون بسرد شواهدها، عن الذين يسعون بينهم بالمَكارم، وعظيم
الصِّفاتِ، والخلقِ الحميد. (صمد الحوبة)، و(مقنع الكاشفات) و(قلال رفيقو)، و(ضو
البيت والفريق)، و(صَمَد الدار)، و(عَشَا البايتات القَوَا)، و(عَوج الدرب)،
و(مامون الوداعة)، و(شَيَّال الحمول)، وهي شواهد منتزعةٌ من واقع التَّجاربِ
اليومية، التي تمشي بين الناس، فليس هناك من يقدر على قول: "كذبت"
لقائلهم، لأنَّ ما يصدر عن الشَّاعر ما هو إلا (عرضحال) لوقائع ما جَرى، وما يَجْرِي
حقاً وصدقاً، ولقد قطع الشَّاعر يُوسُف القَسِم الشُّوبَلي بذلك، عندما قال:
شِـنْ عِزَّتنـا كَان العـَــــازَّة
مـَـا تِرْتَاحْ
وشِنْ فَايدتنا كَانْ مَا نقُولْ كَلامَاً
صَاحْ
الْوَطَن الْعَزِيـــزْ نَلْبَس مَشَاكلُــو
وشَاحْ
حَنْضَـل عـِـزْ أَخِيـرْ مِن ذِلَّة
فـِــي تُفَّاحْ
هذا هو الذي حَدا بالأديب السُّوداني
حمزة الملك طمبل (1893-1960م)، ليقول مخاطباً أدباء السُّودان:
"يا أدباءَ السُّودان أَصْدِقُوا وكَفَى"، وذلك لأنه أحس أنَّ
الأديب السُّوداني عندما يصدق، يكون قد وافق طبعه، وفطرته، وجِبلته التي جُبل
عليها، وهي الصِّدق، والذي تجده عند كلِّ أهلِ السُّودان. نلاحظ أن المحافل
العربية، والإفريقية والعالمية، في كل المواقيت، تشهد للإنسان السوداني بالصِّدق،
والأَمانة والشَّجاعة، والكرم وحسن الخلق جملة وتفصيلاً. وتأتينا الأخبار تباعاً،
تتناقلها الوسائط الإعلامية المختلفة، عن إنسان سوداني تم تكريمه لأمانته، وآخر
كرمته دولة من الدول لشجاعته، ولأنه أغاث ملهوفاً، وأنقذ من هو على وشك الهلاك.
نعم هي النَّجدة والمروءة، التي عرف بها الإنسان السُّوداني، وتتجلَّى في
كل تفاصيل حياته، ونقف عليها في معظم العطاء الثَّقافي بالسُّودان: الأَمثال، الحِكم،
الأَحاجي، الحكايات، والأَشعار والأُغنيات وغيرها، لا تنفك تعزز ما ذهبت إليه،
وتؤكده بشكل قاطع وحتمي.
لا يتأتى للإنسان اكتساب هذه الصفات والطباع، إلا إذا توفرت له جمله من
العناصر المؤسسة لشخصيته، وفي مقدمتها (الصَّبر) وتحمل الشّدائد والمحن، وعدم
الجزع عندما تصيبه نائبات الزَّمان، وهي الصِّفة التي ترتبط بالشَّخصية السُّودانية،
منذ أزمان بعيدة، فالطفل في بوادي السُّودان، وهو ابن خمس أو ست سنوات، تجده يقود
قطيعاً من الأَغنام، أو البقر أو الإبل، وهو في الخلاء بعيداً عن أهله، لا يحمل
معه شيئاً يذكر من الزَّاد، إلا القليل جداً جداً، يحتمل الإرهاق، والعَطش،
والجُوع ويتصدَّى لكل الصِّعاب والمَخاطر.
نجد في الأثر الدِّيني، وتعاليم وتوجيهات رسولنا الكريم، عليه أفضل الصَّلاة
والتَّسليم، ما يَحُضُّ على الصَّبر ويُعلي من شأنه.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ
اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا،
وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ" رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني.
يرتكز مجتمعنا السُّوداني في ثقافته، على
ركائز كثيرة، من أهمها توجيهات وتعاليم الدِّين الإِسلامي السَّمح، والأعراف
وتجارب الحياة، منذ العصور القديمة، فعندما يصف الشَّاعر طه الشَّلهمة شيخه بقوله:
الصَّبُرْ
أصْحَبَكْ عَارِفْ حَقِيقْتُو خَلاصْ
مَا
بْفَارْقَكْ دَقِيـــقَـة يِدْخُـلَكْ وسْـواسْ
مَـاكْ
حَادِثْ جَدِيــدْ مِتْمَتِّــنْ الآسَـاسْ
أبْواتَكْ
بِعَرْفُـو أصْحَابْ شَفِيعْ النَّاسْ
***
تملؤنا قناعة مفادها: أَنَّ الشَّاعر المُعبِّر بلسان حال أهله، يدرك قيمة
الصَّبر، وبخاصة عندما يكون طبعاً أصيلاً، لا تَطَبُّعاً مُحدثاً. فمنْ يصحبه
الصَّبر، هو الذي قد قَرَّ الصُّبرُ في طبعه ورسخ، منذ نشأته، وهو الذي خبر
فوائده، وهو من لا يدخله الشَّك في ثماره التي لا تنتج، إلا بعد عنت ومشقَّة،
وتلزمها قدرات على الصُّمود، وتحمُّل الرهق والضيق، ولقد دعم الشَّاعر رأيه، بأكثر
من إِشارة إلى هذا الطَّبع الرَّاسِخ، فِي قَوْله: (أَصحبك)، و(ماك حادث جديد متمن
الآساس)، ويزيدنا طه ود الشَّلْهَمة إيضاحَاً، بإحالتنا إلى مرجعية هذا الصَّبر،
وهي تعاليم الرَّسول الكريم (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) التي تَمَثَّلَها، وسارَ
على نَهْجها أَصْحَابة الأَخيار، رضوان الله عليهم أَجمعين. والفرق بين السُّلوك
الفطري والسُّلوك المكتسب، عند علماء النَّفس، يتَّجه نحو الفصل بينهما، بتعميم
الأول (الفِطري)، بين أفراد النَّوع البشري، المُحَدَّد السِّمات والخَصائص، وهو
هنا (الإنسان السُّوداني)، والثَّاني (المكتسب)، والذي تجعله وقفاً على أفراد
بعينهم، من هذا النَّوع. وهذا يعني أَنَّ السُّلوك المُكتسب يحصل عليه قلَّة من
النَّاس، ويعني هذا مغايرة ما هو سائد في المجتمع المعيَّن.
الْجُــــودْ
يَا أبْ نَفَـلْ مِتْكَسِّـي بِيۤهُ لَبَاسْ
ثَابْتَــــات
الفَضَايـــلْ وَارِثِـــنْ مِيۤـــــراثْ
الْنِّيـــلْ
البِتَلْـفَـــــح شِيـۤمْتُـــو مَـا بِنْـقَاسْ
شَرَابْ
الصَّحْرَا مَا أثَّرْ عَلِيۤكْ بِى نَقَاصْ
***
لا
يداخنا أدنى شك في أنَّ الكرم هو فحل الطباع عند أهل السودان، بل عند البشرية
جمعاء، فالكريم ثقته في الله كبيرة، لأنه يثق في خالقه الرزَّاق ذي القوة المتين.
أما البخيل فإِنَّه يخشى زوال الخير الذي لديه، ناسياً أنَّ الذي أعطاه، قادر على
تعويضه:
"حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِي، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خُلَيْدٍ الْعَصَرِي، عَنْ
أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا
طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ
يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ،
هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ
وَأَلْهَى، وَلاَ آبَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلاَّ بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ
يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الأَرْضِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ: اللَّهُمَّ
أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا مَالاً تَلَفًا".
يتجه
الشَّاعر إلى النِّيل، في تشبيهه لكرم وجود شيخه، فالنِّيل عند أهل السُّودان
منتهى الكرم والعطاء، بلا منٍ ولا أَذى، يَنعم بخيراته الإنسان والحيوان فلا
يُحْجَر على أحد، ولقد كثر ورود النيل في الأدب السوداني، وذلك لإحساس كل الناس في
السودان بقيمته، وفيض خيراته التي لا تحصى. إنَّ النِّيل في رحلته من الجنوب إلى
الشمال، يجتاز أراض متنوعة، يمنحها من خيراته ولا يبخل عليها، حتى الصحراء تجد
حظها، وهي التي تأخذ نصيباً وافراً من مياهه، فلا يتأثر بما تأخذه، بل يزيد فضله
وخيره، كأنه مصداق قول الله عزَّ وجل، في سورة البقرة: "يمحق الله الرِّبا ويُربي
الصَّدقات واللهُ لا يحبُ كلَّ كفَّار أَثيم" الآية 276.
تزداد
الخيرات، وتحل البركة في المال الذي يتصدق به صاحبه، فهو في فضلٍ كبير, حيث إنه
يجد تعويضاً من عند الله تعالى، على ما أنفقه،.
***
لا نكاد نجد صفة من الصفات، تفوق الكرم عند شعراء الشعر الشعبي في السودان،
مثل قول الشَّاعر (بابا)، في (النَّعيم ود حمد)، الرَّجل الكريم، الذي يضرب به
المثل في الكرم:
الكريم
لمـام الهمايـل
إيدو
أمك رويق والقبلي شايل
وعند الفرجوني:
عاجبني
الكريـم البسند الضعفان
رباي
اليتامى ومركز الضيــــفان
وعند الشوبلي:
الكرم
الأصيل في بلادي ماهو حكاوي
أمثال
ود حمد ليــــلي وبصب فجراوي
إيدو
تفوق على السيل أب تكيكاً داوي
شباع
لهفــة المصرانــو بصبح تاوي
يُعزِّز طَه محمَّد علي
الشلهمة هذا الموضوع، ويتَّخذه محوراً مُهمَّاً، تدور حوله جملة العناصر التي
تنتظم الشَّخصية السُّودانية، وللنشأة البدوية التي ترعرع فيها في منطقة (إيد
الهمر) شرق أبودليق، أثرها الواضح في الاحتفاء بصفات الكرم والنَّجدة والمروءة.
الشاهد أن أهل البوادي في السودان، يعملون على دعم وتقوية الصلات بينهم، لطبيعة
الحياة التي يحيونها، فالمناطق بعيدة عن الوسائل الحديثة، وهي مناطق يرتبط الناس
فيها بصلات قربى ومصاهرة، تجعلهم متماسكين عند الشدائد، لهذا يلبون حاجاتهم من
خلال نظام تكافلي متميز، يجعلهم يتوافقون ويتعايشون مع شدة الحياة. والكرم صفة
تحقق لهم هذا التكافل والترابط. ونجد عندهم أنَّ البخيل في محل الذم، ويطلقون عليه
عبارة (داب روحو)، أي لا يهتم بالآخرين، بل بنفسه وأسرته فقط. وإلى هذا الأمر نفسه
أشار عروة بن الورد، زعيم صعاليك العرب:
وإِنِّي
امْرؤ عَافي إِنائي شركةٌ وأنتَ امْرؤ
عَافي إناؤك واحدُ
أُقسِّم
جِسمي فِي جسومٍ كثيرةٍ وأَحْسُو قِراحَ
المَاءِ والمَاءُ باردُ
يتلازم الجود والكرم، مع العدل والشجاعة، عند
الشاعر طه أحمد محمد علي الشلهمة، والجود والكرم بينهما فصل وتباين في الدلالة،
عرفه علماء اللغة، وأفاضوا في شرحه.
الجود هو العطاء قبل السؤال، والكرم هو العطاء بعد السؤال، وهذا ما يمكننا
الوقوف عليه عند أبي هلال العسكري في (معجم الفروق اللغوية).
يورد ود الشلهمة لفظي الجود والكرم معاً، وهو يدرك أنَّهما صفتان مختلفتان
في معناهما، وهما صفتان محمودتان، يستحقهما الممدوح، فهو يُعطي من يسأله، ويعطي
قبل السؤال، عندما يقف على من يحتاج العطاء. الفصاحة وتذوق دلالات اللغة ووظائفها،
فطرة وراسب نازل في علم الإنثروبولوجيا، والعربية في السُّودان، ذات جذور ضاربة
بعمق في تربة الفصاحة والجزالة، يمكننا أَنْ
ندلل على هذا بشواهد لا حصر لها، وكفانا في هذا المقام كتاب الشَّيخ عبدالله
عبدالرحمن الأمين الضَّرير (1892-1964م) (العربية في السُّودان)، و(قاموس اللهجة
العامية في السُّودان) للبروفيسور عون الشريف قاسم.(1933-2006م)، ففيهما ما يغني
عن الخوض في هذا الأمر المحسوم جدلاً، والشيء والذي وقفت عليه بنفسي، فما من مفردة
غريبة سمعتها في شعرنا الشعبي، وبحثت عنها في القواميس العربية، إلا ووجدت لها
سنداً، ومرجعية تقربها وتشدها إلى الفصاحة، إلا القليل النادر الذي تم اقتراضه من
لغات أخرى.
يحيل الشاعر الأمر كله لمشيئة الله تعالى، فله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا
مما نجده ظاهراً في أشعار فحول الشِّعر الشَّعبي في السودان، من أمثال عبدالله حمد
شوراني، وأحمد عوض الكريم أب سن، وودالسميري الفادني، وغيرهم ممن نجد النزوع
الإيماني، وتفويض الأمر لله تعالى، واضحاً في أشعارهم. الشيء الملاحظ أنَّ طه محمد
علي الشلهمة، عندما ينظم مربوع شعر، ينظمه مترابط الأجزاء، متناغماً تتشكل من جملة
ألفاظه، صورة جمالية حسنة السبك، لا نشاز وتنافر في أي عنصر من عناصرها:
الجُــودْ
والكَــــرَمْ فِي قِسْمَتَــــكْ أتْوَافَــنْ
ؤعَطَّـــــاكْ
الفَضَايْلُـــو جَزِيـلَة مَا بِتْكَافَنْ
شَبَه
مَثَلكْ مُحَالْ لِيۤهُو العِيونْ مَا شَافَنْ
وأطْبَاعَكْ
مِـنْ المَـــــا بِرْضِي الله بْخَافَـنْ
***
يتضح لنا من المربوع السابق، أن ود الشلهمة في الربعين الأولين، يذكر أن
الجود والكرم في صفات الممدوح، ما هما إلا هبة وعطاء من الله تعالى، أصاب به
الممدوح، فتمكَّن منه وهذا بدوره قد أدى إلى أن تتشكل طباع الممدوح وفقاً لهذا
العطاء الرباني، فأصبحت هذه الطباع، لا تتوافق إلا مع الشيء الذي يرضي الله عز
وجل، وهذا هو الذي ذهبت إليه في إشارتي إلى أنَّ ود الشلهمة في مربعاته كلها، ينظم
شعراً مترابط العناصر، تعزز الألفاظ والمقاطع فيه، بعضها بعضاً، في بنائية شعرية
وراءها معنى مقصود.
الحَاضِر
تَفِكْ حَزَنُو وتَنَسِّي أغْرَاضُو
والغَايِبْ
بِتَســـــألْ مِنُّـو هُـو وأوْلادُو
الجُــودْ
والكَرَم لِيۤـكْ فِطْرَتَنْ مُعْتَـادُو
وأبْواتَكْ
حُبُـــــورَاً بِالمَكَــارِم سَـادُوا
***
يتناول ود الشَّلهمة الممدوح، الذي تتجسد فيه شخصية الإنسان السُّوداني
بصورة واضحة، فهو رفيق بأهله، وعشيرته وجيرانه، وكل الذين تربطهم به صله ما، ولا
يقف رفقه هذا عليهم في حال حضورهم فقط، بل يذكرهم ويهتم بهم وبأسرهم، في حالتي
الحضور والغياب، والجانب الوراثي وارد في بروز هذه الصفات، والمثل السوداني يقول:
( الفي والدك بقالدك). هناك شواهد كثيرة من أشعار ود الشلهمة، تدلل على مدى حفاوته
بصفات الشخصية السودانية، فهو عندما يصف صديقه في قصيدة أخرى، يحشد لنا كماً
كبيراً من الصفات، التي تتميز بها شخصية الإنسان السوداني، مثل الكرم والشَّجاعة
والأمانة والعفة، وتجنبه للغيبة والنميمة، وتحاشيه لنكران فضل الصديق. ونلمس الأثر
الديني واضحاً في مضامين شعره:
صديقاً
أصلو ما ظنيتو يقطع يلومك
رفيـقاً
يقل طمع نفسـو ويندِّر كومك
صديق
إنْ جيتو مضَّكِّر كَرب قدومك
بترجع
منـو عريانا بشيلــها هدومك
***
يشير ود الشلهمة في المقطع الثاني من المربوع السابق، إلى الإيثار باعتباره
صفة من صفات ممدوحه، وفيه نجد الأثر القرآني، المتمثل في مفهوم الآية الكريمة:
"وَالَّذين تَبَوءُوا الْدَّارَ والإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهم يُحِبُّونَ مَنْ
هَاجَرَ إِليهِم وَلا يَجِدون فِي صدورهم حَاجةً مِمَّا أوتُوا ويُؤْثرونَ على أنْفُسهم
ولو كانَ بهم خَصَاصة ومَنْ يُوقَ شُحَّ نَفسهِ فأولئكَ هم المُفْلِحُون"
الحشر 9.
تجيء الصُّورُ الشِّعريةُ فِي نصوص ود الشَّلهمة،
في نسيجٍ إبداعي مُبهر، وتستمد رواءَها من ملامستها لواقع حال الناس في السُّودان،
فصورة القسمة المعلومة في التراث (قَسْم أَبْ تَرَّة)، صورة لا تخفى على الإنسان
السُّوداني، وهي في ذم الذي يأخذ لنفسه (عودين)، ويعطي الآخر عوداً واحداً. يستقيم
المعنى وتستقيم الصفة عند ود الشلهمة، في وصفة لممدوحه بأنه ( يِقِل طَمَع
نَفْسُو) أي لا يستأثر بالعودين، كما في (قَسْم أَبْ تَرَّة)، ويعمل على زيادة
نصيب الآخر (يِنَدِّر كُومَك)، أي يجعله كبيراً، والعبارة الشعرية قد صيغت في
أسلوب ذكي، يحدث أثره المرجو في المستمع.
نِيـــلاً
فِيـكْ مَصَالَـحْ العَالَمِيـــنْ مُجْتَمَعة
وأصْــــلاً
مَا حَصَلْ بِى لـُوۤمْ تَغُشَّكْ طَمْعَة
نَضِيـفْ
مِنْ الدَّهَرْ مَا وَسَّخَكْ بِىۤ لَمْعَة
يَا
الجَامْع الحَويۤتْ فَضَلَ الجَمِعْ والجُمْعَة
***
إنه مثل النيل تماماً، يقصده الناس كلهم،
فيجدون فيه ضالتهم، ولا يبخل على أحد، يجد الجميع مصالحهم فيه، ويحصلون على
مطالبهم، وهذا لأن الطمع الذي يمنع المخلوقات من العطاء، لا أثر له عليه، ولا يد
له في سلوكه، فهو خالص من الشوائب التي تشين النفس، فكأنها الثوب الناصع البياض،
الذي لم تصبه بقع الأوساخ والشوائب. ولأن ممدوحه قد أشتهر وعرف بالتقوى، والزهد
والصلاح، فلا بد من استدعاء المفردات، من قاموس يراعي مقتضى الحال.
لأ
ؤمَــــا عِنْدِي والعُـذُر البِلَوِّمْ سِيــــدُو
مِمَـا
قُمْتَ دَرْفُـــونْ بَاغْضُو مَا بِتْرِيـدُو
قَصَرْ
يَا لْسَانِي مَا بتَعرِفْ مَعَانِي قَصِيدُو
قُوْل
القَايْلُـو غَالْقْ السَّاسْ بَعِيدْ تَحْدِيدُو
***
تتمثل لنا براعة الشَّاعر وتمكنه من موضوعه، في حرفية الآلية التي يستخدما
في تجريد وتخفيف ثقل العبارات، باستخدام أسلوب الحوار، والمونولوج، والحذف
والإشارات الذكية، للوصول إلى مقصده، فنجد بداية المربوع، بمثل هذا المونتاج
اللفظي البديع، الذي يقتصد ويوجز العبارة:
(لأ، وما عندي، والعذر البلوم سيدو)، وهي
من مأثورات الشخص الشحيح البخيل، الذي إن جاءه سائل، قابله بهذه الأدوات: الرفض
بقوله له :(لأ)، والإمساك بقوله: (ما عندي)، والمراوغة والماطلة بالأعذار، (العذر
البلوم سيدو).
تعبِّر أشعار طه أحمد محمد علي الشلهمة، عن الحياة السُّودانية وعنصرها
الأساسي، وهو إنسانها، فإننا نراه ونعرف سمته وطباعه. كل هذا في صور شعرية، تأتي
سهلة (سهوا رهوا)، ميسورة وسلسلة في موسيقاها، تجعلنا نحس بالمعنى المخبوء في
ثنايا مفرداتها، فلا معاظلة، ولا تكلف ومباشرة، بل حرفية عالية، ومهارة في تصميم
الرؤى والصور والأخيلة.
****
(تأمل المربعات التالية، فهي تؤكد ما
ذهبت إليه، وهي قليل من كثير، ومختارات تم انتخابها من أشعار ود الشلهمة الغزيرة
المتنوعة، للوصول إلى الصفات التي تحدد ملامح الشَّخصية السُّودانية)، وسوف نواصل
إنْ شاء الله، في تأمل بقية الأَشعار التي نجد فيها أبرز ما يميز الإنسان
السُّوداني، وهذا لأنه يشكل بنية، ومرتكزاً يعيننا على الوقوف على أهم الصفات التي
تميز الشُّخصية السُّودانية.
أكَانْ
حَاصِلْ عَليۤكْ غَضَبَاً شَدِيدْ مُتْأَلِّمْ
صَبـَاحْ
بَاكْراً نَقَايْبُـو تَعَجّــــِزْ المِتْكَلِّـــمْ
البَدْر
المِلاقِي الشَّــــــرْقَة مَاهُو مْضَلِّمْ
وارِثْ
ؤوَرَّثُو أبْواتُـو الحِجَـــــاهُم يِسَلِّمْ
***
مَـا
بِرْجَاكَ يِحَسِبْ فِي الفُرُوقْ ؤيْضِيفَه
مَـا
خَطَـــــرَتْ عَلى بَالُـو الدَّنِّية الجِيفَة
كُوسُوا
الغِيۤرُو كَانْ بِتْدُورُوا جَاه ؤوَظِيفَه
كَهَاتيــــنْ
عِنْدُّو قِيمْـة المِيَّة والتَعْرِيفَـة
***
مَا
كَوَّنْتَهَـا وقُلْـت النَّسِيـــــهَـا آلافْ
جَفَلتْ
مـِنْ خَرَابـَكْ قَنَّبَتْ بِتْخَـــــــافْ
عِنْد
الأيَـدُّو الدِّينْ بنْظُرُوهَـا خلافْ
رِكْبَتْ
فِي سَراة الجِـرِّقْ أبْ أكْتَافْ
***
لا
بْسِـدْ فِيهَا حَوْجَه لا بِكْرِي إنْ إنْضَافْ
هَـــشْ
دُرَّابَـــة عِنْــد النَّائبـاتْ خَــوَّافْ
يُوۤم
يَا أبْ جِزّة بِي فَدْ صَفْقَة تَرْمِيكْ صَافْ
بِتْشِيـــلْ
عنقـــريۤبــك للمقابـــــر رَافْ
***
وَاحْدِينْ
الكُنُوزْ واقْفِينْ أمَامَه كَريَّنْ
إبْلِيسْ
كَالْ لَهُمْ مِنْ الرَّمَـادَة وهَيَّنْ
صَبْر
الصَّابِرِينْ فُوۤقَكْ عَلامَـة مَبَيَّنْ
الجُـودْ
مِنْ فَضَايْلَكْ يِسْتَلِفْ ؤيِتْدَيَّنْ
***
كُفُوفَـكْ
مَنْبعْ الفَايْدَة ولِيَاقَـة الحِـــنْ
ؤفَضَايْلَك
تَثْبِتَه العَامَّه وكُبَـارْ الجِّنْ
حَاتَك
بِالرِّضَا الخَالِــــــق عَلِيۤهَـا يْمِنْ
يَا
وَقْفْ الله بَقْــــــدَرْ أوَصِّفَّـــكْ كِيۤـفّنْ
***
....... يتبـــــــع .........
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفأزال المؤلف هذا التعليق.
حذف