دواديب (1)
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
الدّاداب أو الدّيداب دَرب وطريق ضيّق، شقته الأرجل التي
افترعت الأرض وتذوقت طلاوتها وجدّتها في مواقيت النّشوق والشّوقارة، وأوان المسور وزراعة الأخالي البعيدة من "رِد حِيَامْة الحَايم"، وانْسربت بها السَّعية وخلفها رعاتها وأناقيبها النّجباء، وهي دواديب حين تجمعها لهجتنا العامية التي لها من صيغ الجموع ما يطرب، فالدّاداب على رواية أهل السّافل والشّرق، والدّيداب رواية أهل الوسط وكردفان ودارفور. وبتواصل النّاس وهجرة النّصوص والألفاظ، أصبحنا نرى الدّاداب في غرب السّودان ووسط البلاد، والديداب في السّافل والشّرق، ويتفقان في حالة جمعهما على دواديب، ومرجعيتهما الفصيحة من دَبّ، وتعني المشي البطئ. وهناك أيضـًا الدّاداي في غرب السّودان، وهو المَشي ببطء لعلة في الرّجلين. وتسلك هذه الدّواديب ما ارتفع من الأرض وما انخفض، ونجدها حول الفُرْقَان والحَلّال في البوادي والضّهاري، وكذلك الحواضر التي لازالت طينتها بشبقها الحي، تنجم القشوش ونباتات المراعي كالحنتوت والفَخّة والمَحَتْربة والسِّحَى والمِفَيريط واللَّبلب ...إلخ. ويسكنها عطر الكائنات الشّفيفة التي مرّت بها يومـًا ما، فالأشياء تبقي فضول وجودها ووجدها على
الأماكن والشّخوص، والإلفة لازمة الشّجن ، فمحمد زين اللحوي
يشير إلى هذا:
رَحَلُوا وجَمَعُوا طَرفَهُم
ؤشُوف للشِّيل ما أعْرَفْهُم
وقَفَنْ زُومَة عُطَفْهُم
والنّار تَاكلْ الوالفْهُم
ويمكننا أن نَسْتبْصر هذا الوجد في قصيدة البُحتري، والتي يمدح فيها يعقوب بن أحمد، والتي مطلعها:
عَلى الحَيِّ سِرْنَا عَنْهُمُ وأقَامُوا سَلامٌ وهَلْ يُدْنِي البَعيدَ سلامٌ
وفيها:
وأعْلمُ مَا كلُّ الرِّجَالِ مشيّعٌ ومُا كلُّ أسْيافِ الرِّجَالِ حُسَامُ
كما نجده في قوله:
أهْوى فأسْعَفَ بالتّحيةِ خِلسةً
افترعت الأرض وتذوقت طلاوتها وجدّتها في مواقيت النّشوق والشّوقارة، وأوان المسور وزراعة الأخالي البعيدة من "رِد حِيَامْة الحَايم"، وانْسربت بها السَّعية وخلفها رعاتها وأناقيبها النّجباء، وهي دواديب حين تجمعها لهجتنا العامية التي لها من صيغ الجموع ما يطرب، فالدّاداب على رواية أهل السّافل والشّرق، والدّيداب رواية أهل الوسط وكردفان ودارفور. وبتواصل النّاس وهجرة النّصوص والألفاظ، أصبحنا نرى الدّاداب في غرب السّودان ووسط البلاد، والديداب في السّافل والشّرق، ويتفقان في حالة جمعهما على دواديب، ومرجعيتهما الفصيحة من دَبّ، وتعني المشي البطئ. وهناك أيضـًا الدّاداي في غرب السّودان، وهو المَشي ببطء لعلة في الرّجلين. وتسلك هذه الدّواديب ما ارتفع من الأرض وما انخفض، ونجدها حول الفُرْقَان والحَلّال في البوادي والضّهاري، وكذلك الحواضر التي لازالت طينتها بشبقها الحي، تنجم القشوش ونباتات المراعي كالحنتوت والفَخّة والمَحَتْربة والسِّحَى والمِفَيريط واللَّبلب ...إلخ. ويسكنها عطر الكائنات الشّفيفة التي مرّت بها يومـًا ما، فالأشياء تبقي فضول وجودها ووجدها على
الأماكن والشّخوص، والإلفة لازمة الشّجن ، فمحمد زين اللحوي
يشير إلى هذا:
رَحَلُوا وجَمَعُوا طَرفَهُم
ؤشُوف للشِّيل ما أعْرَفْهُم
وقَفَنْ زُومَة عُطَفْهُم
والنّار تَاكلْ الوالفْهُم
ويمكننا أن نَسْتبْصر هذا الوجد في قصيدة البُحتري، والتي يمدح فيها يعقوب بن أحمد، والتي مطلعها:
عَلى الحَيِّ سِرْنَا عَنْهُمُ وأقَامُوا سَلامٌ وهَلْ يُدْنِي البَعيدَ سلامٌ
وفيها:
وأعْلمُ مَا كلُّ الرِّجَالِ مشيّعٌ ومُا كلُّ أسْيافِ الرِّجَالِ حُسَامُ
كما نجده في قوله:
أهْوى فأسْعَفَ بالتّحيةِ خِلسةً
والشّمسُ تلمعُ في جَناحِ الطَّائرِ
سِرْنَا وأنتِ مُقيمةٌ ولرُبّما
سِرْنَا وأنتِ مُقيمةٌ ولرُبّما
كانَ المُقيـــــمُ عِلاقـــةً للسَّائـرِ
والبيت الأول ذكره العالم الجليل الرّاحل، البروفيسير بابكر البدوي دشين- رحمه الله رحمة واسعة -، في دراسة له تحت عنوان " شاعرية البحتري" وقال عنه:" فهو هنا يسجّل انفعاله بانعكاس ضوء الشّمس في جناح الطّائر، وهذا كما ترى وقت الشّروق قبل أن تظهر الشّمس لعينيك فأنت ترى الشّمس وتظنها لم تشرق بعد، ولكنّك إذا نظرت وقد مرّ طائر محلّق في السّماء، فإنّك سترى التماع الشّمس في جناحه، وهذا من معاني البحتري المبتكرة التي تدل على دقّة ملاحظته.".إهـ.
الدّقة في الأشياء مجلًى لها وقيمة تضاف، ومحصول يُجتنى ويُحصد، وهي في "الدّواديب" سَمْتٌ ظاهر، و"الرّقِيِّق خيت الشَّلَّة"، ولقد سار بهذه الدّواديب قوم جِلَّة، وودالشّلهمة البطحاني يشير إلى قيامهم:
قَامُوا اللّيلَة مِنْ دَار الدَّمَر وانْقلُّوا
كَارْبَة ضَعِينَتُن مِنْجَمْعَة ما بِنْفَلُّوا
سَقَّدْ مَايْقِي رُوقْة الغَمْدَة مَا بِتْطُّلٌّو
وقَلْبِي مَعَ الجُرَاسَة البِنْدِلَنْ قَامْ كُلُّو
فقيامُ القلبِ كلِّه وخفقانه وتلجلجه، وهرولته وراء مشال الهوادج و"العُطَف" التي تعلّق بها، حتى أضحى عِلاقَة على حد قول البُحتري؛ آصرة شجن حَرَّاق موجع، تحملّته الدّواديب المخضرة الحواف، والتي يخيفها الجفاف فتتماهى مع الآل وسراب القيعان الرّقراق و"القَهَبُونَة" والخَلاء الواقُوقْ، فتحتجب وتتوارى ذعراً، فيخبط السائر عليها خبط عشواء، وودالشّلهمة يمسك بريشته الرّشيقة الحاذقة بتلابيب الحالة التي اكتنفت القلب وخالطت دوزنته فانفلت نسقه الإيقاعي، وصار قائمـًا بكلّياته غير قاعد. فليس هناك مجال لاسترداد وميض الصّحو والرّجعى للمرئيات التي تحايث الطريق والدّاداب أو الديداب انَّى سار!.
ورَشِيش طائر "السُّقد" بجناحيه مرتحلاً من مكان وضئ، إلى آخر أكثر وضاءة والليل مقمر، هو الوجع اللذيذ الممض، الذي ألفته كبد الشّاعر الغنّاي ذي الشّوق القديم الجديد، ألفته على شدته، والكبد مكمن الأشواق لدى شعراء تراثنا الشّعبي، وهذا راسب الأم الرءوم التي تكثر من الإشارة إلى جَناها بالكبد، وهذا راسب نازل من جبلة طينة الإنسانية، ويكون قاراً في جينة الشّعور الرّاسخ لدى الكائن الحيّ.
سارت جمال البوادي على الدّواديب، تنشد الرّاحة والأرض "الهو" المنسرحة المنبسطة، التي تُطلق اللفظ من عقاله فيرقل، ويخب، ويكربت، ويدج، ويصاتم، ويزوع، ويحاكي الّحلّة جات ويعوم، ويقرعب ويفز ويلعب الحملية والجدادية والصّقرية. وهذا كار قديم تعرفه الجمال، وتعرفه كل السّعية، وبت أب قطفة المربيد تحسن التّعامل معه ومداورة وملاعبة جونبه ومداراته الممتدة،
قادرة التِّيهَا وكْتـَا بِتْ لِبِنْ مِي قَارْحَة
قُبَّال ما انْعَدِل فُوقْهَا بْتقُومْ بَي مَارْحَة
عَلى سَخَلَة تَقَاقْ البِي البَطَاينْ سَارْحَة
بِتْ أبْ قَطْفَة إسْعَافَـًا خَتَفْلُوا مَجَارْحَة
أسعفتها الدّواديب البراح على هذا العطاء السّخيّ، والذي رصده مربوع الشّاعر الغنّاي، وألفاه بديعـًا فريداً في نسقه ونسيجه، وشواهده على السّرعة واضحة وقوية الدلالة، فقبل أن يعتدل في جلسته على ظهرها، طفرت وقامت به مارحة، ومقصد الشّاعر "شيوم" الأصالة والفطرة وسخلة البوادي التي رتعت في نعيم واديها وطمأنينة بواديها.
ولقد حاكت النّاقة في سرعتها، الإسعاف الذي أدرك الجرحى وانطلق بهم لا يقف في طريقه حاجز ولامانع، فله الصّدارة في المرور وعبور الطرق، وحواجزها فمهمته عاجلة لا تقبل التأخير والتّاجيل، وهذا فهم طيّب لوظيفة الإسعاف المنقذ للمصابين، هي رسالة للجميع لجعل طريقه ودادابه أو ديدابه، ممهداً له للوصول بجرحاه إلى مستشفى العلاج الطّارئ للحوادث، وقانا ووقاكم رب العباد! من حوادث الدروب والدّواديب الوعرة الشّاقة! آمين!. ونردد مع صديق ود العوض شاعر راما الخوالدة ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ .
ياربّ العِبَاد عَطْفَك سَرِيع بنْدُورُو
وماتْعابِينا بِى ذَنْب البِظلمُو ويجورو
عِم الرّحْمة والسُّودان تَسَهِّل أمُورُو
عِيشو آ عَايشْ الوَطْواط عَلَى صَنْقُورُو!
آميــــــــــن!
والبيت الأول ذكره العالم الجليل الرّاحل، البروفيسير بابكر البدوي دشين- رحمه الله رحمة واسعة -، في دراسة له تحت عنوان " شاعرية البحتري" وقال عنه:" فهو هنا يسجّل انفعاله بانعكاس ضوء الشّمس في جناح الطّائر، وهذا كما ترى وقت الشّروق قبل أن تظهر الشّمس لعينيك فأنت ترى الشّمس وتظنها لم تشرق بعد، ولكنّك إذا نظرت وقد مرّ طائر محلّق في السّماء، فإنّك سترى التماع الشّمس في جناحه، وهذا من معاني البحتري المبتكرة التي تدل على دقّة ملاحظته.".إهـ.
الدّقة في الأشياء مجلًى لها وقيمة تضاف، ومحصول يُجتنى ويُحصد، وهي في "الدّواديب" سَمْتٌ ظاهر، و"الرّقِيِّق خيت الشَّلَّة"، ولقد سار بهذه الدّواديب قوم جِلَّة، وودالشّلهمة البطحاني يشير إلى قيامهم:
قَامُوا اللّيلَة مِنْ دَار الدَّمَر وانْقلُّوا
كَارْبَة ضَعِينَتُن مِنْجَمْعَة ما بِنْفَلُّوا
سَقَّدْ مَايْقِي رُوقْة الغَمْدَة مَا بِتْطُّلٌّو
وقَلْبِي مَعَ الجُرَاسَة البِنْدِلَنْ قَامْ كُلُّو
فقيامُ القلبِ كلِّه وخفقانه وتلجلجه، وهرولته وراء مشال الهوادج و"العُطَف" التي تعلّق بها، حتى أضحى عِلاقَة على حد قول البُحتري؛ آصرة شجن حَرَّاق موجع، تحملّته الدّواديب المخضرة الحواف، والتي يخيفها الجفاف فتتماهى مع الآل وسراب القيعان الرّقراق و"القَهَبُونَة" والخَلاء الواقُوقْ، فتحتجب وتتوارى ذعراً، فيخبط السائر عليها خبط عشواء، وودالشّلهمة يمسك بريشته الرّشيقة الحاذقة بتلابيب الحالة التي اكتنفت القلب وخالطت دوزنته فانفلت نسقه الإيقاعي، وصار قائمـًا بكلّياته غير قاعد. فليس هناك مجال لاسترداد وميض الصّحو والرّجعى للمرئيات التي تحايث الطريق والدّاداب أو الديداب انَّى سار!.
ورَشِيش طائر "السُّقد" بجناحيه مرتحلاً من مكان وضئ، إلى آخر أكثر وضاءة والليل مقمر، هو الوجع اللذيذ الممض، الذي ألفته كبد الشّاعر الغنّاي ذي الشّوق القديم الجديد، ألفته على شدته، والكبد مكمن الأشواق لدى شعراء تراثنا الشّعبي، وهذا راسب الأم الرءوم التي تكثر من الإشارة إلى جَناها بالكبد، وهذا راسب نازل من جبلة طينة الإنسانية، ويكون قاراً في جينة الشّعور الرّاسخ لدى الكائن الحيّ.
سارت جمال البوادي على الدّواديب، تنشد الرّاحة والأرض "الهو" المنسرحة المنبسطة، التي تُطلق اللفظ من عقاله فيرقل، ويخب، ويكربت، ويدج، ويصاتم، ويزوع، ويحاكي الّحلّة جات ويعوم، ويقرعب ويفز ويلعب الحملية والجدادية والصّقرية. وهذا كار قديم تعرفه الجمال، وتعرفه كل السّعية، وبت أب قطفة المربيد تحسن التّعامل معه ومداورة وملاعبة جونبه ومداراته الممتدة،
قادرة التِّيهَا وكْتـَا بِتْ لِبِنْ مِي قَارْحَة
قُبَّال ما انْعَدِل فُوقْهَا بْتقُومْ بَي مَارْحَة
عَلى سَخَلَة تَقَاقْ البِي البَطَاينْ سَارْحَة
بِتْ أبْ قَطْفَة إسْعَافَـًا خَتَفْلُوا مَجَارْحَة
أسعفتها الدّواديب البراح على هذا العطاء السّخيّ، والذي رصده مربوع الشّاعر الغنّاي، وألفاه بديعـًا فريداً في نسقه ونسيجه، وشواهده على السّرعة واضحة وقوية الدلالة، فقبل أن يعتدل في جلسته على ظهرها، طفرت وقامت به مارحة، ومقصد الشّاعر "شيوم" الأصالة والفطرة وسخلة البوادي التي رتعت في نعيم واديها وطمأنينة بواديها.
ولقد حاكت النّاقة في سرعتها، الإسعاف الذي أدرك الجرحى وانطلق بهم لا يقف في طريقه حاجز ولامانع، فله الصّدارة في المرور وعبور الطرق، وحواجزها فمهمته عاجلة لا تقبل التأخير والتّاجيل، وهذا فهم طيّب لوظيفة الإسعاف المنقذ للمصابين، هي رسالة للجميع لجعل طريقه ودادابه أو ديدابه، ممهداً له للوصول بجرحاه إلى مستشفى العلاج الطّارئ للحوادث، وقانا ووقاكم رب العباد! من حوادث الدروب والدّواديب الوعرة الشّاقة! آمين!. ونردد مع صديق ود العوض شاعر راما الخوالدة ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ .
ياربّ العِبَاد عَطْفَك سَرِيع بنْدُورُو
وماتْعابِينا بِى ذَنْب البِظلمُو ويجورو
عِم الرّحْمة والسُّودان تَسَهِّل أمُورُو
عِيشو آ عَايشْ الوَطْواط عَلَى صَنْقُورُو!
آميــــــــــن!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.