قراءة أولى في دوبيت
البروفيسور عثمان وقيع الله
د. محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
قدمت هذه القراءة الأولى ضمن فعاليات الاتحاد العام للتشكيليين السودانيين، أمسية السبت 3 يناير 2009م بمتحف السودان القومي، كمشاركة من قسم التنوير والتثقيف بجامعة السودان المفتوحة، في تأبين الرّاحل الشاعر الأديب التشكيلي العالمي، البروفسير عثمان عبد الله وقيع الله. وهو من مواليد رفاعة 1925م، متزوج وأب لابن وثلاث بنات. توفي يوم 4/1/2007م.
درس الفقيد بخلوة جده الفقيه أحمد إبراهيم وقيع الله، وبمدرسة رفاعة الشرقية الأولية بنين، ومدرسة رفاعة الأميرية الوسطى، وكلية "غردون" التذكارية، وكلية "كامبرويل" للفنون الجميلة ( لندن، 1946م)، وكلية "سيتي آند غلدز" للفنون (لندن)، معهد "كورتو" لتاريخ الفنون (لندن)، ومعهد الخطوط العربية (القاهرة)، كلية الفنون التطبيقية ( القاهرة)، كما حصل على إجازة خطاط من الخطاط المصري سيد إبراهيم.
شارك في عدد من المعارض والمناسبات الفنية:
معرض بيت السودان لندن 1947، معرض الفنون الأفريقية (مركز كامدن للفنون_ لندن)؛ مهرجان العالم الإسلامي (جامعة لانكشير)، مهرجان العالم الإسلامي (جامعة أم درمان الإسلامية)؛ معرض الرّواد (قاعة الصداقة الخرطوم)، معارض دورية بالمملكة المغربية؛ مؤتمر دراسات السودان العالمي.
أقام معارض فردية في كل من:
جامعة كنت، معهد كنتربري للفنون، معهد جامعة أكسفورد معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية، المتحف الوطني دمشق، كلية سوانسي الجامعية، كلية سيتي أوك برمنجهام، جامعة درهام (بريطانيا)، ويستمنستر (لندن).
ومن مساهماته:
إدخال فن الكاريكاتير للسودان، مادح وشاعر غنائي يتقن الدّوبيت، تصميم دواوين شعر عالمية، والجنسية السودانية المميزة بوحيد القرن، تصميم جواز السفر السوداني.
تصميم أول عملة سودانية، تصميم طوابع البريد والعلم السوداني القديم، تصميم أوراق اعتماد السفراء لدى وزارة الخارجية.
هناك شاعر من هُذيل ذكره أحمد بن فارس في مجمله، يقول عن الغربة والسفر، الذي عرفه وعركه شاعرنا ،(على بحر الوافر):
إذا لمْ تَحظَ في أرضٍ فَدعها
وحُثِّ اليَعْملاتِ على وَجَاها
ولا يغرُرْك حظُّ أخيكَ فيها
إذا صَفِرت يمينُك من جَدَاها
ونفسَك فُزْ بها إن خِفْتَ ضيماً
وخَلِّ الـدَّار تَنْعي مَنْ بَنَاهَا
فإنك واجدٌ أرضـاً بأرضِ
ولستَ بواجـدٍ نفسًا سِواهَا
ونجد أن شاعر البطانة يوسف (ودعبشبيش)، رحمه الله، يقول محرضـًا على الهجرة والنفور من مضارب الفاقة والكسل:
مَـالا الحِلَّـة والقَعْـدَة الكَتِيـرَة مْروضَـه
أخِيۤر لَي رَقْدَة فِي الغَابَـة البِينْتُـر دُودَه
البَرْطَمْهَــا بِشْبَــه كَبـْدَة المَغْـدُودَة
عَنَـى لِى هجُومْهَا قِرْد بِيۤلا المَصَعْ بِى الفُودَة
يوسف ود عبشبيش شاعر يرسم بكلمات وألفاظ الدوبيت، ويشكل عوالمه ورؤاه ونلمح عناصر التشكيل في قوله:
صِيۤـدَه مَخَرتَتاتْ أسْهَامْهَا مِيهَا خَشِينَة
رُقَّـًا بَاقِي فِي جُوۤفْهَـا المِرَاقْدَه عَسِينَة
المَوْزُونَـه مِـي دَهَبَـة كُنُوزْ ؤخَزِينَة
ولا بِياصْفُوهَا بالسَّاعَة الرُّبَاطْهَا كَتِينَـة
عناصر التشكيل في المربوع السابق:
1. مخرتتات: هذا عمل الإزميل.
2. أسهامْها: أطرافها التي شكلت .
3. ميها خشينة: هنا ضربات الصنفرة للتنعيم ونفي الخشونة.
4. رق الجوف: حركة زائدة للازميل.
5. المراقده عسينة: الأرضية التي يضعها النحاتون لتماثيلهم.
6. الموزونة: هذا هو التناسب الخاص.
7. مي دهبة كنوز: ليست موزونة بميزان الذهب .
8. ولا بياصفوها بالساعة: وليست موزونة بميزان آلة الوقت (الساعة).
ومن دوبيت البروفسير الشاعر عثمان وقيع الله:
(بلقيس الفريق)
(بلقيـس) الفَرِيق سِتْ الجَمَـال والمَجْــدِ
كُلْمَـا أشُوفْ وجِيۤهكْ بِيـۤكِ يِزْدادْ وَجْـدِي
والشُـوۤف والسَّلامْ والبَسْمَة مَا عَادْ تَجْدِي
أنَا مسَاهِـرْ بِى طِيۤفِـكْ وإنْتِ مَا بِتْهَجْدِي
***
طَرْطَاشة العُقولْ حَتَّى الصغَـار في المَهْدِ
لوّايـْةَ الرُّقـَابْ تِتْشَابَى ليۤـك تسْتَجْـدِي
بَهَـرْتِ الصِّينِي والسَّكْسُوني والبُولَنـْدِي
ؤبهدَلْـتِ المَعَاكْ إنْ عَربِي كانْ أوْ هِنْدِّي
***
سِليمَانْ شافِـك اتْنَبَّـى ورَطَن لاونْـدِي
حلف زي قولو فيك ما بجيبو زُولاً أفندِي
صرصر في التبادي حسيسو زي الجُنْدِي
وانْتَهَـى بِـىۤ نَهِيقَاً نَاقْصُو بَسْ بَرَبَنْدِي
***
ؤ(ودْ الرِّيفْ) يِكُــوۤرِكْ فِيـك (آآآخ يا وعدي)
و(الكَاوْبٌوي) يكَفْكِف فِي قَمِيصْ(جيمس بوندي)
ؤ( شَافْع الإنِقليـز يهتـف(هالو ماي فريندي)
يِهَوهُـوا وإنْتَ فِـي هَيبـة رَئيس الجُنـْــدِ
***
حَفيـِدةْ الحيّـَّرتْ أفْكَـارْ مُلـوكْ الوَجدِ
لو شَافِـكْ (عُمَـرْ) شَمَّ النَّسيـمْ النََّجـدِ
ؤ (سيِّد) كانْ يِقُولْ(جُوهرْ جَمـالِك فَرْدِي)
و(العَبَّادِي) يِشجى ؤجـدّو كانْ ليۤك يشدِي
***
ويۤـنْ الحَاج سَروۤر يِشْرَح ويغَازلْ الوَرْدِ
ويـۤن كـَروانْ مُلوكْ النِّيلْ يِغَرِّدْ ويَهْدِي
ويۤن ودْ مَاحِي وأل بِى رِيقْهَا تَرْوِي الشَّهْدِ
ويۤن عَبد العزيز وفَينوسُو خَلَفَتْ وعْدِي
***
مَجْدِك أصِيلْ ؤمَوروثْ مِنْ قَدِيمْ مُو دقِنْدِي
ؤحَارْسِك هَا الضَّمِيرْ لُو كْرَاية لُو جَرَبَنْدِي
مَحاسْنِك فِي الكِتابْ وَارْدَة وجَبِينِـك يِنْدِي
بِكْرِي البـُّن ضحَى فِي بُيْضَـة البَاشَنْدِي
***
كَضَابْ البِقُـولْ أوْفَـاكِ قُولُـو تَحَـدِّي
وصْفِـكْ عِنْدِي كُلُّـو البَنْـدِ بَعْد البَـنْدِ
ؤعهدك عِنْدِي حَافْضُو لامِنْ أدْخُل لَحْدِي
(بلقيس) الفـَرِيقْ: (صَفوة جَمَالِك) عِنْدِي
***
هو شاعر يشكلُ الجغرافيُّ والنسيجُ الإنساني والإرثُ الثقافي الشّعبي، بكل ثقله عوالمَه الإبداعيةَ التي تنبثقُ منها رؤاهُ لعالمٍ سمحٍ وجميلٍ ومتسامحٍ وجمالي. فتعاطيه مع الدُّوبيت بهذا النسق، وهذه المربعات المتقنة، دالة على منطلقه ونزوعه إلى اليومي المعاش، وغالبِ همِّ الناس في غدوهم ورواحهم، في بيئة لها تاريخٌ مفعمٌ بالرَّواءِ البدويِّ وما زالتْ أصواتُ الشَّجنِ القديمِ تترددُ في ساحاتها وتصدح بها حناجر الطيبين، أهلِ الإبلِ والمشال و(النُشوقِ) و(الشُّوقارة). فهو متصالح مع المكون الاجتماعي لوسطه الذي نشأ فيه. تهمس لنا أشعاره الشّعبية باعتداده بهذه الأرضية التي استندت عليها رؤاه وخطوط وجده الكوني العفوي؛ فلا فصام بين التحضر والانتماءِ إلي القديم الحي النابض مع دفق العروق والذوق الذي يسكن المرئياتِ، فتتخلقُ عوالم من الضوءِ والظلالِ والألوانِ والمفاهيم، لحوارِ الآخرِ الذي يعتد بثقافته وذائقته الخاصة- وحق له ذلك- ويتواصل من خلالها مع الآخرين؛ فالحديقة لا ترفض الأزهار والرياحينَ والورودَ التي تتلونُ وتتنوعُ فيها، بل ترقصُ طربًـا فراشاتُها ويطيبُ عطرُ هوائها متضمخاً بهذا الثراءِ الجمالي.
إن استدعاء ذاكرة الغناء الشَّعبي من حقول الحقيبة في عصر ازدهارها في حضرة: عبدالله الماحي، وكرومه، وعمر البنا، وسيد عبد العزيز والحاج محمّد أحمد سرور، والعبادي، وصالح عبدالسيد... الخ، منحى توثيقي وتضمين لبؤر الجمال التي نهل منها فيوضَ وجده. وهنا إشارة إلى مكامن الحس الراسخ في عصب الفنان المسكون بالجمال أنَّى كان وحيث حل؛ إن ملوك الوجد، قادرون على التواصل الحميم مع مشاعر المترعين بالذوق ورهافة المشاعر.
القاموس عنده قاموس شعبي اقتحمته مفردات البندر وتشده إلى واقع لا فكاك منه. فالتسجيل التصويري، وعدسة الرصد الفني لا تتجنب المفردات التي تؤدي إلى القطع المفاجئ، وخطرات "الكولاج" وتقاطعِ عناصرِ "المونتاج" المثمر المخصب للنَّص في تناصٍ، هو من تجليات تقنيةِ الإبداعِ العالمي، وشاهدٌ على التسامي والانفلاتِ من الرتيبِ المتماثل. (بِكري البن ضِحى في بيضة الباشندي)، وهذا هو الباشندي الذي عناه الحاردلو في مسدار صيده:
أبْ عَـرَّاقْ فَتـَقْ قَرْنُـو المِبَادِر شَرَّه
والبَاشَنْدِي عَمَّـتْ مَهْششيـۤبْ الـدِّرَّة
مِنْ النَّقْرَة كُلْ حِينْ فُوۤقْ عِليۤو مِنْصَّرَّة
شَاحْد الله الكَريمْ مَا تَلْقَى فِيهُو مَضَرَّة
الواقعية السحرية تغمز بعينها وتبتسم في دهاء وذكاء، فهناك حوار منتزع من المسامع اليومية في أسواق السودان ومنتدياته الشعبية في رفاعة وتَمْبُول وبَرِيدَة والطليح والطُنْدُب والسَّيَّال والكُتُوتاب والغِصيۤناب، والهِلالية، والرفاعيين، وغيرها من قرى وحواضر شرق "العَادِيۤق" - النيل الأزرق- والذي يوردُه باسمه في نص قادم مطلعه:
عُـودَة عِيدْهَـا ليۤك عِيـدِينْ ؤعيـدَك عُوۤدَة
لِى العَاديۤكها عَادَى القِيۤفْ عَدَاوْة أبْ خُـوۤدَة
طِينْهَا عُصَار ؤعِيۤشْهَا عَدَار ؤقُطْنَتْهَـا دُودَة
وأهلـها في الّلحـَم دُودَاً قَنَـص للصِّيۤـدَة
والدّراما وخطوطُ صراعها ومقوماتُ تشخيصها، تسترق السمْع من خلف كواليسها، وستارةُ مسرحها يهزُّها طربٌ خفيفٌ، فينتزعُ من محياها طيفَ ابتسامةٍ راضية بالحس الكوميدي الذي يتسرب من بين مسامات نص أستاذنا البروفسير عثمان وقيع الله رحمه الله رحمة واسعة.
ومن شعره (مسدار عيد رفاعة)، والذي تغنى به المطرب الشعبي معتصم حسن الأمين (التّماري):
سَـلامْ سُودَانِي مِنْ سُودَانِي لِىۤ سُودَانِي
حِسَّـك بِى حُلُـولْ العِيـدْ هَتَـفْ نَادَانِي
ؤحَالِي نَا شِيۤنْ ؤحَالَك زِيۤن ؤخَيَرك دَانِي
ؤتِيـهكْ يا الرِّهَابْ فِي دَاهْيَة تَبْ وَدَّانِي
***
دُعَاشِـكْ هَبَّ بالذِّكْـرَى المِوَلِّعَـة جَانِـي
زَادْ شُوقِي وعَليـۤك فِي الغُرْبَة زَاد هَجَجَانِي
وصْلِكْ بَاتْ مُحـَال وأسْبابِـك الهَاجَّـانِـي
مِنْ عَـاذْلاً جَهُــولاً بِى الفَقُـر هاجَـانِي
***
صابْحَة عِيدْ بَعيدْ فِي الغُربَة طَالْ سَرَحَانِي
وِكْتِيۤـنْ القِمِيـۤـر يِتْوَارَى فِي لَمَحَـانِي
شُفْـتَ وِجِيۤه بِكِيرْة أبْ خَنْجَـرْ البَطْحَانِي
ؤطْرِيتْ القِبيۤـلْ رَاحْتِـي وشَمِيـمْ ريْحَانِي
***
سلامْ يَا دِيـارْ قَبايــلْ صَافِنَات فُرسْانِي
شِعْـراً أصيلْ يفُوقْ نَاسْ طَرْفَة والحَسَّانِ
شِعْـراً فِيكْ صَحِيحْ لُو صَـدَقَة لُو إحْسَانِ
في أمْجَـادْ دِياركْ بيـۤن شَبَابْ وحِسـَانِ
***
بَهْجَـة جِيلْنـا سِتات الشيـول والشَّـانِ
حَافْظَاتْ العهُودْ مَا سْمِعْتَ فِيهِنْ شَانِـي
غِيۤـرْ غَنَّايِنْ الصَّدَّاحْ (بِحَق مَنْ أنْشَانِي)
(بَسْ طِيۤفِـنْ مَنَـامْ يِغْشَانِي لَو يِغْشَانِي)
***
ربـَّات الحَيـَا السَّحَـر البَعِيـدْ والدَّانِي
قَامَن فِي حَنَانْ فِي عِـزْ عَفَافْهِـن دَانِي
سَابْلاتْ سِتْرَهِـنْ سِتْـر القُطُوفُو دَوانِي
وإنْ سَفَـرَنْ مُحَـالْ يِمْتَدْلَهِـنْ مِتْدَانِي
***
تَبَـارَكْ خَالِقِـنْ الحُسْنَهِــنْ رَبَّـانِي
زاهيات المحيا أمـات فِريۤعـًا بـَـانِي
شُوۤفِي كَتِيرْ ؤزَي شَبَهِنْ مُحَـال يِغْبَانِي
فَضَـح الرِّيفِي وأخْجَل صُفْـرَة اليَابَانِي
***
ؤمَا بتِتْلَمَّى إلا عَلَـى السُّهَـادْ أجْفَـانِي
حَتَّى الكَانْ صَدِيـقْ اليُومْ جَفَلْ جَافَانِـي
ؤحَتَّى الخَاتُّو لَي خِل وأوفيتو مَا أوْفَانِي
نَحَرْنِى ضِحَى ورَجَع سُوۤلَبْنِي مِنْ أكْفَاني
***
قُـولْ للعَـاشْ عَلى عَالَـة ؤقَفَلْ مَجَّـانِي
يِمُصْ فِي حَر دِمَـاي زَي القُرَادْ مَجَّـانِي
أبْنِي أنَا وتَهِـد- ؤنِتْسَاوَى كِيۤـفْ يَا جَانِي
بَاكِـرْ للقَصَــاصْ بَرْجَـاكَ مَا بْتَرْجَـانِي
كأننا نقف عند الصورة النادرة التي رسمها ود الشلهمة للجبال وهي تتغطى بكُجَر التعول (السحاب)، في قوله:
قِبْلِيـكْ سَابِقْ اللّيلِي وصَبِيبـُو انْحَــتَّ
ضُهْرِيكْ سَاوَقْ أُمْ بـَرَد البِيرْمِي سَقَطَّـه
سحْبِـكْ دوۤدى فُوقْ عَلاو ضُهُورِك خَـتَّ
جَبّـالك جَبـَدْ كُجَــرْ التِّعُـولْ واتْغَـتِّ
***
السفر محمل للحزن ومرارة للذكرى التي تغشى الناس الذين يحملون أوطانهم في تفاصيلِ وجودهم الإنساني، فلا يملك الواحدُ منهم إلا أن يكونَ "هو"؛ بكل ذكريات منبته ومربعِ صباه وتشكلِّه البشري.
للأعياد مقدرة على انتزاع الناس من رتابة الأيام، وشدِّهم لأيام سامر الصَّفو ولهو الأتراب والجيران والأحباب ودفء العشيرة.
لقد دلل أحمد الأمين القدال أحد مشاهير الدوبيت وصييتيه، وهو من أبناء قوز الأحامدة بمحلية شرق الجزيرة بولاية الجزيرة، على قابلية دوبيت البروفسير عثمان وقيع الله وصلاحيته للترنم به بروايات النّم والدوباي، فكان اختياره لقصيدة رفاعة (مسدار رفاعة) كشاهد على ذلك، فتغنى بها على الربابة خلال هذه المساهمة.
عـودة عيدها ليك عيـدين ؤعيـدك عودة
لى العاديكها عادى القيف عداوة أب خودة
طينْها عصار ؤعيشها عدار ؤقطنتها دودة
وأهلـها في اللحـم دوداً قنـص للصيـدة
***
قال ليك الدفع ميتين في منديـل موضـة
قـام من نومـو لقى كومو ولففها بريـده
"حسَّك راح- زمـن ما سمعنا ليك قصيدة"
"اتنقلـزت خليـت الديـار لـى سيدهــا"
***
مُـو جَاهل العَليۤكْ لكنُّـو قَصْدُو مَكِيـدَه
حَاسْدك حَتْ عَلى الغُرْبة البِرَارِي جِلۤيـدَه
هُو ليۤهـا يِحِج وإنْتَ الفِيهَا صِرْتَ زَهُودَه
صَلاتَه وَفَا وصِيامَه خَفَا وسحُورَه مَدِيدَة
***
قُتْ لِيۤهُو: "الدِّيَارْ يَا زُوۤلِي الله يِزِيـدَه"
أنَا سِيدْهَا وكَمَانْ خَدّامْ جُبَالْهَا وبِيـدَهَا
وأنَا سُودَانِي مَا "اتْنَقْلَزْتَ" والمَرْيُـودَه
كُلْ صُبْحًا جَدِيدْ لَي فِيهَا نَمَّة جَدِيــدَة
***
مَرْيُودْتَك ؤلِى غِيۤـر الدِّيارْ مَـا فِي رِيۤدَة
رِيۤـدَة قَدِيمَـة رِيۤـدَة سَلِيمَـة رِيۤدَة أكِيدَة
رِيۤدَة صَحِيحَه رِيۤدَه نَصِيحَة مَاهَـا بَلِيـدَة
رِيۤـدْة الرُّوحْ:وجُودك إنْتَ نَاقْصُو وجُودَة
***
رهاب تتوارى حينـاً واضحـة حين مفقودة
ؤفي الجوف نارها زي لهب الحريق موقودة
في الصحـو في المنام إيـدك دوام في إيدها
متكلبـش براك في الغربـه ماش بى قيـدة
***
نفســك في دعاشـه مكتحــك هبُّودهـا
داقَّـاك مطرتـه وطوينهـا أكلتو عصيـده
طارشة إضنيك مع الساري البخوّي رعودها
لى قمريهـا قاجِّي شـرك سبيب مو حديدة
***
شمسك عينها بدرك دور تمام في خديدها
سـرك في فؤادْها وحار دماك في وريدها
ريّـك ريقْهـا صافي ؤفاكهتـك في نهيده
كلما ليلْهـا طال الطيب عبـق في عويدها
***
حبابها ألـف حبابهـا ديـاري وافـر جودْهـا
عامره بخيرها اكان في رمالها كان في سدودها
بس ناقص الضراع الكـان بهـز بى جريدهـا
طاش للعملـة صعبة ؤرزقـو طين مو حديدة
***
إتشتتنـا كتحـة عيـش حياتنـا زهيـدة
تُّب الغربة: قيمة الروح سطـر في جريدة
كلابهـا سمـان ؤسائلـه قدتـن مشدودة
أخيـر العودة- قـال: "النِّيَّه زاملة سيدها"
***
ؤلى المريوده في كل ساعه دعوه وعوده
ؤعودة عيدها ليك عيدين ؤعيـدك عيدها
ؤصبراً لى لقا الفي جيـدها ضاوي عقيده
يوم يجي يوم لقاها "المانش" بتقطعو خوده
***
في قوله: "طينها عصار ؤعيشها عدار ؤقطنتها دودة.
وصلاته وفا وصيامه خفا وسحوره مديدة". وفي: "ريـدة قديمـة ريدة سليمة ريده أكيـدة.
ريدة صحيحة ريدة نصيحة ماهـا بليـدة".
هي "القُودات"، أو النَّقر الموسيقى للتّكثيف الصَّوتي، لإشباع الدلالة ولتنمية الحركة وتجسيدها، وهذا وارد في شعر الدُّوبيت والمسادير، وبخاصة عند عبد الله حمد شوراني: " مُهْرة نيم ؤلبخ ؤجنينة"، وفي قوله:
نَايرْ ؤنَادِي عَالِي عَلِي الشَّبَابْ إسْكيۤلُو
وفي هذا حفاوة بالموسيقى مع مراعاة الشكل العام والبناء البصري للنَّص، بترادف حروف الصاد والراء، للصفير والتكرير وهذا "تصاقب" مع المعنى المراد.
الشَّاعر ونصه المعافى من الاستلاب وفقدان الهُويِّة، رغم العوامل المحيطة وعزلة الوجه واليد واللسان، في بلاد الصقيع والضباب لم "يتنقلز"، بل يستدعي أسماء الشخوص الحميمة إلى النفس: سليمان والكاوبوي ؤود الريف، كما رصدنا في النَّص السابق.
وفي هذه اللوحات الإنسانية الجميلة السهلة الميسورة للعامة، يتأكد لنا هذا التحصين ضد الاستلاب؛ فمفردات الديار المختزنة في الوعي واللاوعي مضادات صامدة أمام ضربات المدهش الموجع المضاد، الذي يخترق التقاليد والأعراف الراسخة لمجتمع متوازن وغني بالتجارب الاجتماعية الحيّة.
كل هذا في تشكيل يرصف المفردات بعفوية ونثر طلق من القيود اللسانية الصارمة فلسان العامة سهو رهو يتداعى مع التفكير الحر .
مع صراع (Conflict)، الكتل والظلال والأضواء نجد الكلاب السمينة في البلاد الغربة والمحتفى بها جداً في مقابل السائل الذي يصفه الشاعر بأنَّه "القِدَّة المشدودة"، وفي هذا التعبير، معنى واضح وإشارة صريحة لبؤس الحال. فلا رديف لحال السائل إلا هذا الجلد المسلوخ من رقبة البعير والذي جف وشُد. فهنا حركة في وسط السكون والجمود. فاللفظة "مشدودة"، تسد مسد الحركة وتسمي غير المنطوق، والمسكوت عنه في فضاء المربع الشعري.
"رهاب تتوارى" هي الرؤيا التي تفر هاربة بينما يلاحقها الفنان بكل أدواته، مع فوران داخلي يحفز النفس على مواصلة المطاردة التي هي قطعـًا بلا نهاية منتظرة؛ وهنا مكمن الفن وسر براعته وحرفيته وجدواه.
انتظار الذي يأتي ولا يأتي كانتظار "جودو"، هو هذا المأمول المحرض على الاستمرار في العطاء الإبداعي رغم الحواجز والمحبطات من الأمور.
وصيغة المبالغة التي نشتمها في "المانش بتقطعو خودة"، ليست كما هي في باب المستحيل والغير ممكن بل هي تعبير عن الدافع القوي والإرادة القوية.
هناك ملمح لاعتراف ضمني بفاعلية الدوبيت كجنس ثقافي شعبي. وهذا امتداد لرأي البروفيسور عبدالله الطيب (رحمه الله) وعدد من علمائنا الجلة الذين يرون هذا الرأي.
"اتشتتنا كتحة عيش"، "نا" الجماعة دالة على كثرة الاغتراب في زمانه وضرورة الهجرة لطالبي العلم والمعرفة. وهنا صورة عذبة منتزعة من المشاهد السودانية البحتة، وتُنْسجُ العناصرُ الكاريكاتيريةُ من مكونات المربع الشعري، فنعي الإنسان لا يُفْسَحُ لهُ غير سطر في جريدة. وهذا هو المعادل الموضوعي لقيمةِ الإنسان هناك، على غير المألوف في مجتمعنا الذي يُكرم الإنسان حيًّا وميٍّتا، ويذكر محاسن موتاه.
إتْشَتَتنا كَتْحَة عِيۤـشْ حَيَاتْنَـا زَهِيدَه
-------------------الخ
وتوظيفُ الأمثالِ في النُّصوصِ الشعريةِ الشعبيةِ لازمٌ لتعضيدِ المعنى وتقريبهِ من متناولِ الإنسانِ الذي له عنايةٌ خاصةٌ بأمثالهِ التي هي ركامُ خبراته وتجاربه ومخزن عاداته وأعرافه، وذكريات معاشه "النِّيَّة زَامْلَة سِيدْهَا". والهاء الممدودة هذه بصمة صوتية تشي بالمكان الذي هو قطعـًا شرق النيل الأزرق "العَاديۤق" قبالة رفاعة، وهي تقترب كثيراً من هاء الغائبة في الفصيح. وكما في:
"قام من نومو".
حَبابْها ألِفْ حَبَابْها دِيـَاري وَافِر جُودْها
---الخ
عنده أن الديار غنية بخيرها، ولابد للمهاجر منها أن يكون مدفوعـًا بدافع جدير بالاحترام والتقدير، وليس العملة الصعبة لوحدها، فعنده أن خيرات دياره هي العملة الصعبة الحقيقية.
وعندما يصبح الرزق "طينا"، بدالة المصطلح المحلي يصبح في محل "القَمَاح" والخسارة. فالعيش الطين والرزق الطين، معنى يدركه الإنسان السوداني بدون كبيرِ عناء، وعنده مقابلٌ لهذا المصطلح: الرزق "الحديدة"، وهو مقابل مبتكر من قبل الشاعر ليقف في مقابل "الطين". وفي هذا معنى واقعي للكسب الحقيقي الجدير بالهجرة ومعاناة فراق الديار. وهو متتم "للضُراع"، وهذا رمز للكدح والعمل ويَحملُ الكثيرَ من الإشارات والعلامات والدلالات المعنوية في الثقافة الشعبية السودانية.
وحين يَهُزُ "الضُرَاعْ" بالجريد، نقف على ترميز لهذا العنصر الحضاري الذي تعرفه الثقافة السودانية منذ مئات السنين، وفي الفترة المروية بخاصة كرمز لطول العمر المديد والحياة الطويلة.
إحساسنا بالكتابة الإبداعية في شهود الموروث الثقافي العريق قائم، فالجناس والطباق والمقابلة والتورية لا بد من اشتمامِ رائحتِها ولمسِ رونقِها الموروثِ من خلال الأشياء المتراصة في محمل النصوص الشعرية الشعبية لشاعرنا المبدع، مثل:
أوطاني --------------- محاوطاني.
أجفـاني --------------- جافانـي.
وأوفيتو ما أوفاني، والشان ------- فيهن شاني.
والحَسَّان ---------- لو إحسان ---- ؤحِسـان.
ؤخيرك داني ---------- تَبْ ودَّاني.
زاد هججاني ------ هاجـاني ----الهاجـانـي.
"البِرَارِي جِليۤده"، و"صبحي أوراد".
***
إن القراءة الأولى لنصوص الشاعر المبدع التشكيلي العالمي الرّاحل البروفسير عثمان وقيع الله (رحمه الله)، لا تفيها حقها ومستحقها من النظر والتّدبر. بل هي ضربات عشوائية لريشة الرّسام المغامر الباحث عن الرؤى التي تفر هاربة – عسى ولعل. وهذا ما كان منّي، وإنا أواجه هذا العطاء السوداني الحي، الذي يختزن خبرة هائلة وتجربة إنسانية رفيعة. فهو جهد متواضع أسعى من خلاله لتأسيس مقاربة شعورية مع هذا الإبداع الجمالي. وستتواصل هذه الضربات ما دام النص واعداً بكل مباغت ومدهش، وهذا ما أثق فيه تمامـــاً.
(محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة)