مقدمة (ديوان
ود نصر الدين في مدح خير المرسلين)
سليمان ود نصر الدين
حماد نصر الدين عبدالقادر 1837-1941م
(أحد عشر
كوكباً من ديوان ود نصر الدين في مدح خير المرسلين)
أ.محمّد
الفاتح يوسُف أبوعاقلة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على خاتم الأنبياء
والمرسلين، سيِّدنا محمَّد عليه أفضل الصَّلاة والتَّسليم وبعد! لقد أبدع وأجاد وصدق حسَّان بن ثابت حين
قال:
آليتُ
مَــا في جميـــــــــــعِ النَّاسِ مجتهـداً مِني أَلية بـَـرٍ غيـــــرَ إفنـــــــادِ
تاللهِ ما
حَملتْ أنثى ولا وضعتْ مثلَ الرَّســولِ نبِّي الأُمَّةِ
الهـادي
ولا بَرا
اللهُ خلقـــــــــاً مِن بريتِـــه أوْفَــى بذمــــــــــةِ جـــَــــــــــــارٍ
أو بميـــــــــــــعادِ
مِن
الـَّذي كان فيـــــــــــنا يُستضـــاءُ به مبارك الأمـرِ ذا عَـدلٍ وإرشـادِ
المديح النبوي ضرب رفيع من أضرب
الإبداع السوداني، تتجلى فيه ملكة النظم الشعري عند أهل السودان، فصيحهم والعامي.
ولقد أسهم المديح بقدر كبير وفعال في نشر الثقافة الدينية في السُّودان، وصار
رافداً للوعي بالسيرة النبوية، ومكارم الأخلاق التي تجسدها وتبثها في المجتمعات
الإنسانية.
من خلال الألفاظ العامية التي يتواصل معها عامَّة النَّاس في السُّودان،
وبواسطتها يتم التَّعبير الأدبي (أدب المدائح)، وصلة العامية السُّودانية بالفصحى،
صلة متينة لا شك فيها؛ بل هي من أقرب عاميات الوطن العربي للغة العربية الفصحى، وكتاب
(العربية في السُّودان) للشيخ عبدالله عبدالرحمن الضرير، و(قاموس اللهجة العامية
في السُّودان)، للبروفيسور عون الشريف قاسم خير شاهد على ذلك.
ولقد أبدع شعراء المدائح بالسودان في أشعارهم المادحة للرَّسول صلَّى الله
عليه وسلم وللصحابة الكرام، ومنهم شاعرنا ود نصر الدين، الذي أقف على أشعاره للمرَّة
الأولى، ولقد سعدت جداً بقراءة قصائده المادحة، والتي وجدتها تشع بالمحبة للرَّسول
صلَّى الله عليه وسلم، وتنهج الصدق والطلاقة في النظم، وسبك الألفاظ والصور. وهنا
لا بد من إشارة إلى أن تراثنا الشَّعبي السُّوداني يحتاج منَّا إلى نظر وعناية!
فكيف لنا أن نغفل عن ديوان كهذا كل هذا الزَّمان؟ علماً بأن شاعره – ود نصرالدين- قد عاش في الفترة من 1837
-1941م، 1252 ه- 1356ه، حسب ما أورده الأخ
الأمين جاه الله يوسف، في مقدمة الدِّيوان.
إننا نلمح تشابهاً في النَّفس الشِّعري
بينه وبين الشَّاعر المادح محمَّد حياتي بن الشيخ الحاج حمد بن العربي 1290 ه- 1362ه،
والشاعر المادح (ود نصرالدين) وفق هذا التاريخ، سابق للشيخ حياتي في فترته التَّاريخية،
وبالرغم من هذا لم يشتهر شهرة الشيخ حياتي، شاعر المديح العارف البارع. وتبرير
الشيخ (ود نصرالدين) لهذا الأمر بعدم توفر (الزُّمَّال) الذين لهم دور مهم وحيوي
في ذيوع القصائد المادحة وانتشارها بين الناس تبرير موضوعي ومقنع، فلو توفر لهذا
القصيد الحي (زُمَّالاً) بارعين لشنَّفوا مسامع النَّاس بالأمداح الطيّبة العذبة،
ولكنها مشيئة الله تعالى!
جزى الله الأخ الأمين جاه الله
يوسف خيراً، على رعايته وحفاوته بهذا الديوان المهم جداً، فهو إضافة لتراث المديح
السُّوداني. والباحثون في هذا الضَّرب الأدبي، والمختصون في دراساته، يسعون طلباً
للشواهد والأمثلة، التي تتأبى في أحايين كثيرة وتستعصي على الباحثين، وذلك للوقوف
على الأجناس الأدبية في ثقافتنا السودانية، وسبر أغوارها وفهم خصائصها وسماتها.
نَشـْـــــــــــرَب ونِتْبــَـرَّدْ
عُمـُــــــــــــــــومْ
نَمْحِي الوزار
الكَانــَــــا كُــــــــو︠مْ
لِىﹶ مَكَّة نَنوي
طَواف قُدُومْ
نَلْبَسْ إزَارْ
نـــــَــــرْمِي الهِدُومْ
إنه الحنينُ الغلابُ إلى ينابيع
النَّقاء والطُّهر، واستجابة لداعي الحج- مؤتمر الإسلام وركنه الطيب- الذي يتنادى
له المسلمون من كل حدب وصوب، راكبين وراجلين، من كلِّ الملل والنِّحل والأصقاع،
يتجردون من كثافة الدنيا، طمعاً في لطيف الإيمان وبرد اليقين.
موسيقى النظم تنقر على إيقاع المُربَّع
الحاني، وسداة الألفاظ تنسج على رواء حرف الميم في، (عموم، نمحي، كوم، مكَّة،
قدوم، نرمي، الهدوم). سلاسة ونظم غير مفتعل (سهواً رهواً)، لا نحس فيه بتكلف
الموضوع، بل هو الصِّدقُ الخالص، وحبُّ المصطفى صلَّى الله عليه وسلم!
أرْوَاحنا زَامتْ
يا فَهــــُــــــــومْ
نَلقُطْ حُجَار
نَرْمِي الرّجُومْ
طَلَعنـا عَرَفَة
وحُمْنَا حُــ︠ومْ
حَتِّيـــــــــ︠ــــــــــــنا
ذَنبــــاً لِينَا رُومْ
قاموس شعري منتخب من المتداول والرَّاهن واليومي، وهذا عامل مهم وحاسم في
تفاعل المديح وتأثيره في السَّامعين من عامة الناس في المجتمع السُّوداني، فالرِّجال
والنِّساء والأطفال، كلهم ينجذبون لهذا القصيد، ويتواصلون مع مضامينه ويستجيبون
لتوجيهاته. وفي ثنايا النَّص شعائر الحج في تجريد شعري سهل، يحيط بعملية لقْط الحَصى
في الطريق من مزدلفة إلى منى وذلك لرمي الجمرات، والوقوف بعرفة، والتحلل بعد الذَّبح
والحلق، أو التَّقصير ثم الطواف بالبيت، والتخلُّص من الذنوب، تبعاً لأداء
الشَّعيرة المهمَّة. ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: "مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُث
ولَمْ يَفْسقْ رَجَع كَيوم وَلَدْتُهُ أُمُّـــــه". متَّفق عليه.
مُعْجِـزاتْ طــَــــــــه
المُحْتــــرَمْ
بِى مَسيسُو
الضَـــرْع عَتَمْ
إنْ وَطَا للصَّـــــمْ
لانْ وَجَمْ
مِنْ فُراقو
العُـــودْ حَنْ رَزَمْ
نِعْمَه يا النَّوى
لِيـــــ︠ــــــو
قَدمْ
شَقَّا فوق التِّيــــــــــه
والسِّهَمْ
خَتَّا فُوقْ
الرَّوضَة والحَرَمْ
شَافْ ضَريحاً
فِيـــــــو النِّعَمْ
***
لا يخلو شعر (ود نصر الدين) من شفافية وفهم عميق لمعجزات الرُّسول صلَّى
الله عليه وسلم، فهو متشرب بسيرته عليه
أفضل الصَّلاة والتسليم، وهذه المعجزات تتوافق مع الجو النَّفسي للإنسان السُّوداني
وتجتذب كل مشاعره.
وعملاً بقوله تعالى: "إنَّ اللهَ وملائكَتَه يُصلُّون على النَّبي
ياأيها الذِين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسْليمَا"، الأحزاب 56.
يكثر الشَّاعر المَادح (ود نصر الدين)، من الصَّلاة
على الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم في معظم قصائده، وفي هذا قُرْبَى لله وعبادة،
والمَدائح بهذا المَنْهج مما ينفع النَّاس، لأنها دعوة خالصة للخير وللعبادة وحسن
السُّلوك. ونلمح بعض ملامح (الملامتية)
في قوله (من كونو محقَّرا):
الصَّلاة والسَّلام
ما صَبْ سحَابْ مَطَّرا
مَا قَـــــــــامْ
نَبَــــــات بُتَّابْ عِيـــــــ︠ـــــشْ أَوْ شَرا
مِن عَبْدَك
سليــــ︠ـــــمانْ
مِنْ كَونُـــــو مُحَقَّرا
ترضيك يا الرَّسُـــــــولْ
ؤفي حُبَّك مَتْجَرا
***
زجر النفس وردعها، والنأي عن العجب والرِّياء
والسُّمعة، من أقوم مقومات الشخصية المتصوفة، والتي تتخفى، ولا تظهر الخضوع إلا لله تعالى، وتواصل
إتهام ولوم نفسها بالقصور والضعف وقِلَّةِ الحيلة:
(سئل بعضهم ما صفة
أهل المَلامَة؟
فقال: دوام التهمة، فإن فيها دوام المحاذرة، ومن قويت محاذرته
سهل عليه رد الشبهـات وتـرك السيئـات)
وللمَراثي مكانة في هذا الدِّيوان، ومنها مرثية ود نصرالدين، للشيخ دفع
الله الغرقان، والتي جاء فيها:
يبكنكْ قَبايــل
مِنْ شـــــرُوقْ ؤغروبْ
فَقدكْ حـَــــارقْ
الرَّاكــــب مَع الأقرُوبْ
دُو︠بْ
للبَرْمَكِي أترو الزَّمانْ شَقْلُوبْ
قَهوتكْ دَوَّرتْ
والشَّاي جَالْ بالكُو︠بْ
وعلاقة المريدين مع شيوخهم وآبائهم الصَّالحين، علاقة متينة وخالصة لله
تعالى، تربطها وتمتِّن عراها محبتهم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهي المحبَّة
التي تكون القاسم المشترك بينهم"، المــــــــا عنــــــدو محبة ما عنُّــــــدو
الحبَّة" ،
هناك موجهات ضروية ولازمة، يتحرى النـَّــــاظر في التُّراث الشَّفهي السُّوداني
وجودها، في أي مبحث، وتحقيق، ومدارسة، وأحسبها من الأشياء التي إلتفت إليها الأخ
الأمين جاه الله يوسف، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-
توخِّي الدِّقَّة
في رسم الألفاظ صوتياً.
2-
ثبت بالمفردات
ومعانيها.
3-
بناء المدائح على
أنساق المديح المعروفة مثل: (المربَّع، والمخبوت، والدَّقلاشي، والمعشَّر، والحَرْبي).
4-
ضبط الرِّواية بالشَّكل كما
وردت من أفواه الرُّواة، والدِّقة في حفظها وتوثيقها.
5-
ملاحظة أنَّ
المادح ود نصر الدين، يختتم المدائح بالإشارة إلى اسمه، وهذا أسلوب ثابت عند شعراء
المديح السُّوداني. وله شواهده من الشِّعر العربي القديم، فهو يندرج تحت ما يسمى ب
(التخلُّص)، وهو في الغزل (عقر القصيدة)، حيث ذكره البُلغاء قديماً ووصفوه بأنه:
ذكر المادح لاسمه في آخر القصيدة. وبعض النقَّاد يعيبون القصائد التي لا يُذكر
فيها هذا التخلص، ويسموُّنها (مقتضبة). ومن أضرب التَّخلُّص، التِّكرار، والتَّرديد،
وذكر العكس، وذكر الاطراد، والتكميل، وذكر التَّفريق، وذكر القسم ...الخ.
ابنُ نَصــــرالدِّين هـــَـدَاهَا
للرَّســُـــول دَايِرْ جـــَــــزَاهَا
6-
الالتفات إلى
أن (ود نصر الدين) يفتتح مدائحه بالتَّسمية، ثم يثنِّي بالصَّلاة على الرَّسول صَلَّى
الله عليه وسلَّم.
7-
القراءة وفق
الضَّبط بالشَّكل، تعين على فهم معاني قصائد المديح.
عُقولنا
لَبَّتْ يا فَهُــــــــوُمْ بَسْمـَــــع
لِى صُو︠ت
حَاميـــني أنُوم
قَالْ
عَاجِلاً يا مَادْحِي قُــــــــــومْ خَلِّـــــي التَّكَاســـُــــل والهُمُــــــوم
نَسـْــــرِي
ونَقُـــــــوم مِتْباشِريـــــــنْ خَشِّيــ︠ــنَا
فِي سُو︠حـُــــــو
الأمِينْ
8- توظيف علامات وحركات خاصَّة، كالفتحة
الممالة إلى الوراء، في لفظ (دُو︠بْ)
( دو︠ب
للبَرْمكي)، فالواو ممالة للوراء، وتحتاج لحركة خاصَّة تعين على قراءتها والنطق
بها، كما هي عند عامَّة الناس في السُّودان.
قَالْ
مَرْحَباً لِيـ︠ــــكُمْ
ضَمِيـــــنْ بِالفــُـــــــوﹶزْ يُوﹶم العـيـ︠ــــــبْ
يِبِينْ
الرأي عندي أنَّ هذه النصوص لا تمثل إلا
قدراً يسيراً من قصائد ود نصرالدين، فشاعرٌ له مثل هذه الملكة والبراعة، لا يكون
شعره بهذه القلة. وهذه دعوة لكل الذين لديهم بعض نصوص من أمداحه التي لم يتضمنها
هذا الديوان، فعليهم مد القائمين على الديوان بها لمزيد من التَّحقيق والضبط، وحتى
تصل معظمُ قصائدِ الشاعرِ لقُرَّاء ومتذوقي المديح السوداني.
هذا الديوان عطاء طيِّب للثَّقافة السُّودانية،
ومجهود مقدَّر ومعتبر من الذين قاموا على جمعه وتنقيحه وتحقيقه، حتى رأى النُّور
شاهداً على إبداع الإنسان السوداني، المتمثل في الشَّاعر المادح (ود نصرالدين)،
المحب للرَّسول الكريم صلَّى الله عليه وسلَّم. كل العشم أنْ يكون هذا العمل فاتحة
خير لأعمال توثيقية أُخْرَى، يقوم بها أهلنا الجموعية أصحاب التُّراث الثُّر القيِّم!
ولقد عُرفوا بأنهم (أهل كتاب)، كما لهم أيضاً كلُّ سمات (أهلِ الركاب).