غناء الروح للروح
عند سيد أحمد عبد الحميد
***
محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة
***
تحتشد في اسم الشاعر، الملحن المبدع ابن العامراب، بالولاية الشمالية، (سيد أحمد عبد الحميد)، موسيقى واضحة، تترادف وترن، وتتناغم حروف هذا الترادف الصوتي، الذي تلفه غيمة من الحسن المخبوء في جرس الحروف، وهي تنقر على مربع حرف الدال في: سيد، وأحمد، وعبد، والحميد، مع تآلف بينها، وبين تكرار حرف الحاء، وبمنهجية النظم الجرجاني، يأتي تضام هذه الأصوات، لينبئنا بأن وراء هذا التشكيل الصوتي المتناسق، معنى وإشارة إلى حقل من البهاء السهل الممتنع.
إنه التربال الذي تلفه سكينة لا تخطئها العين، عركته السنوات وعركها، وتسربل بتجارب ملأته يقينا سمحا، وجعلته مطمئنا لا يأسى لشيء، ولا تهزه نوائب الدهر القاسية.
يجلس على طرف عنقريب، وساره يقاوم ضغط الزمن عليه، به عطر قديم، يتحسس أوتار الطمبور، كأنه يتفحص علله، ليطب جراحاته، في ظل راكوبة تحت ظلال الجريد، على مقربة من شاطئ العامراب، ومركب خشبي يتراقص مع موجات مياه النيل الخالد. كأنه يهتز متجاوبا مع نقرشة دوزنة الطمبور العجوز، وعلى مقربة من حائط الجالوص ماعز تمد جزعها لتتناول أوراق شجيرة صغيرة. صوفها يرقش إذ تسقط عليه شمس الصباح الحانية، فينعكس منه ضوء خافت، علي بؤبؤ عين الطفل الصغير الذي يجلس ببراءة ونقاء نادر، بينما يأتيه صدى لحن وأداء، يأخذ بجماع القلب والروح:
(يا رمال حلتنا زولا كان بآنسك يا حليلو
فات رحل من بلدو روح
فاتلو لى ناس ماها هيلو).
تهتز كل أركان الذات، وهي تعود إلى مواقيت العمر الذي انسحب من بين أيدي الناس، وهم في ديار لا تحتفي بهم ولا تألفهم حيواتها.
يكاد الواحد منا حين سماعه لهذا الصوت، يتطاير جذبا ومرحا، وربما يثور وتتفجر طاقاته حزنا وحسرة، وتظهر على ملامحه غضون الضيق والأسى، على ما ضاع منا من طمأنينة وسلام، بينما سيد أحمد يظل ساكنا، سكون الجبال الراسخة.
تعتبر شخصية زوربا الإغريقي، في رواية بوريس كازنتزاكيس بعفويتها وطلاقتها وتجاربها التي يستقي منها المتعلمون معارف جديدة يفتقرون إليها، شخصية تبحث عنها الإنسانية لتعينها على الفكاك من قيودها الصارمة، وآلة (السنطور) التي يعزف عليها زوربا، من المشترك بين زوربا وسيد أحمد صاحب الطمبور العتيق، وبينهما مشتركات جوهرية أخرى، منها: الطلاقة والعفوية، والزهد والتواضع، غير أن سيد أحمد لديه من العلم نصيب وافر، وهذا مما لم يتوفر لزوربا، ولديه أيضا ملكات إبداعية متنوعة مثل زوربا الإغريقي.
إن سيد أحمد عبدالحميد معلم تربوي، ومزارع خبير، وعازف ماهر على الطمبور، ساهم في تدريب الطلاب علي عزفه، بالمعهد العالي للموسيقى والدراما.
كان مت أكتبو فوق قبر المحب كلمات
هذا شهيد الحب عاشق العيون المات
الله البراهو عليم بالمخفي في الخلجات
زي نوعو في الفردوس المولى يديني
يستمد القالب النغمي الغنائي في شعر سيد أحمد، من ميراث الغناء السوداني القديم جدا، الذي نفترض وجوده منذ ما قبل الحضارات والممالك السودانية القديمة، وما أنتجته الذهنية الشعبية السودانية، من أنماط لحنية سودانية خالصة، مثل الهوهاي، والدوباي، والواواي، والشاشاي، والحنبى، والهزيز والجابودي، والجراري، والتويا، والكرير، والذي نجد فيه ما يشبه بعض الانماط الصوتية في المشرق وفي المغرب، ولا نغفل عن العمق الأفريقي وتشبعه بالأصوات والإيقاعات اللحنية النادرة. فلا ننجر وراء نظرية التأثر بالزجل، والتوشيح، والدوبيت وغيره من الأصوات الشعرية في العالم العربي. فالمبدع السوداني ابن بيئته، وهي بيئة تضج بالتنوع والثراء ولا تحوجه للاستلاف والتقليد.
تتناغم وتنسجم الكلمات، مع نبرة الحزن التي تكسو صوت المبدع يعقوب تاج السر أبونايب، وتلتقي بأطياف (عابرة) محمد أحمد الحبيب:
(أرويني أرويني نهر الأماني سراب
يا عابرة دليني لميني في الأصحاب).
كم هو جميل وأليف، أن تتآخى الأغنيات وتأتلف، في محبة وسماحة ووئام. تمور الذكريات حية، ترفرف بأجنحتها الوردية، في وجدان الإنسان، الذي لم تفارق الطورية يده، فهو تربال ومعلم أجيال، لم تبعده معرفة العلوم والخبرات التربوية الثرة، عن رواء عامية الأهل الطيبين، فهي بنت الفصيح، وهي تحن وتهفو للمعنى، و(معنى المعنى) متاح للجميع، إن شدوا سواعد الهمة، وغاصوا في لجة بحر المعاني المتلاطم الأمواج.
كيف بنسى يا أخوان مهما الزمان بي طال
لو طال زماني وزاد لو كبرت الأجيال
أطراهو كل ما اشوفلي زهرة بى عيني
إننا نرى أن ثنائي العامراب، لهما من شعر سيد أحمد نصيب طيب، يصدحان بنغم يحرك صم الحجار، ويهزان به أوتار الروح، فهما ثنائي يندغم صوتاهما في نغم متكامل، مشبع بالتطريب، والتلوين الصوتي الساحر:
كجنت الفريق خليتو يا أم روبا
ألقى العين تفيض والدمعة مسكوبة
الزول كيف يفوت الليهو مكتوبة
لو في زول بفوت آ خِلا قولولي
يا خِلا الشقا دايماً ملازمني
الحظ العسير دايماً مقالدني
أبراهو السراب يظهر يعشمني
لو في زول شرب آ خِلا قولولي.
لا أحسب أن الصيغ الطلبية في نصوص سيد أحمد عبدالحميد، مما يصعب على المستمع فك شفرتها، فهي منتزعة من الواقع، ويلهج بها لسان الحال الفصيح. والحزن قاسم مشترك، يجد الأكباد الحرى، التي تبتل وتبترد من ناره، التي تتصاعد السنتها في الكلمات.
عشرين عام وفوقن سبعة يا مريودة
من عمري الكمل في الغربة ما معدودة
تلاهي رويحتي دار ترجع محل مولودة
شقيش قبلت لقت الدروب مسدودة
يا حليل البلد وساعة لقيط واقودا
عدمان تقبلك كان قاطع المقدودة
يتمرغ الغناء في حقول المكان الخصيب التريان، المستمد من عبق التواريخ الموثقة في أضابير الذات السودانية. إن (الدياسبورا) التي ساح فيها اهل الشمال، مهما أعطتهم من مقاصدهم، فإنها لا تبل شوق هذه الروح الشاعرة الموسومة بعطر مكان لا ككل الأمكنة.
الفيتي في أحلى العيون جريتا لا نجم الدغش
وفترت قاصد العنقريب سرقن ربابتي بنات نعش
وشكيت همومي انا للنجوم سونو في العمى والطرش
تصارع أشواق المغني، رؤى تفر منه نافرة ومتمنعة، وربما تكون راغبة، وتسجل (السبحة الألفية) وهي غالبا من اللالوب ،حضورها في ليل العاشق، وهي إشارة إلى نقاء الطوية، وسماح نية صاحب الربابة، المتاحة للسارقين المشاكسين. ونجوم السماء شهود، ومتواطئة مع العشاق.
يسهم سيد أحمد عبدالحميد بصوته الشعري الفريد، بجدارة في إيقاد مشاعل الوجدان السوداني، لأن مفردات شعره طرية وسهلة، وهي مما يجذبك إلى بساتين الجمال عنوة، ويعيدك إلى صحو الحياة في ديار النيل والنخيل والرمال، ترفدك بكل أسرار الدهشة، وتفاصيل المنظور الذي يمر به الناس عجلى، لا يدركون كنه سحره وإبهاره، فتصيبك رعشة المباغتة فتفغر فمك وتصيح مأخوذا:
يا سلاااااااااااااااام.
وبخاصة عندما يرسم لنا هذه الصورة للبلد، فهي في الأصل أمنا:
بلدنا زي القمرة ضيها ما فرز
لا لون علي لون ميزت
أم لليتامى الصابرين
أبو للغلابة الكادحين
والجاها زائر من بعيد
مدتلو ثدياً ما غرز
إنك لا تجد صناعة وتكلف في نظم سيد أحمد، فهو يغترف من مألوف لسان الناس في خطابهم اليومي، يتوافق معهم، وتسحرهم ألفاظه وتطربهم صوره، التي عندما يتأملونها في شعره، تحسبهم كأنهم يرونها لأول مرة، وهي في هذا الزي الجميل، فلقد أعاد الشاعر سيد أحمد للمفردات حيويتها، ونفض عنها غبار الرتابة والملل. وبمجهود بسيط وسهل وميسور، فيا من تبحث عن الغموض والتعمية في الشعر .. لن تجد هنا ضالتك، هنا غناء الروح للروح، في يسر وطيبة وبشاشة.
***
(محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة)