بسم الله الرّحمن الرّحيم
دواديب (4)
(عن صدّيق البادي وأحمد الفضل أحمد)
محمّد الفاتح يوسف إبوعاقلة
المسارات التي تسير بها البوادي، قديمة قدم الإنسان في بلادي، وهنا استخدمت البوادي قاصداً أهل البادية وقاطنيها، والشاعر الشّعبي طه ود الشّلهمة يقول:
إسّمَّحْـتِ وشِّـــــكْ نــَــار
وزَرْقن فوقِك الهَدَمي السّحابُو كُبـَار
شَقَّاقك مَحَا السّيلْ اتكَسيتِ خَـدَار
وكُلْ يومْ البَوادي مِجددين فيـك دَار
ويقصد بالبوادي أهل البادية البادين، وهنا استطرد مرسلاً تحيّة خالصة للصديق الباحث الأصيل المثابر صدّيق البادي، والذي يرتبط اسمه بالبوادي فهو بادٍ وإن كان في العاصمة، لما فيه من أصالة وتجرد للبحث والجمع والتّوثيق والمدارسة للعديد من مآثرنا السّودانية التي نفتخر بها، فإذا نظرنا إلى حصاد تسفاره بين البنادر والبوادي، نجد:
1-لمحات من حياة وثورة ومدائح عبدالقادرودحبّوبة. صدّيق البادي
2-الشّيخ الطيّب ودالسّائح. 3-من رواد التّعليم.
4-حركة مزارعي مشروع الجزيرة وإمتداد المناقل.
5-معالم وأعلام (الجزء الأول).
6-الشّريف حسين الهندي.
7-القبائل السّودانية والتّمازج القومي، وغيرها من الأعمال التي تعد رصيداً قيّمًا للمثقّف السّوداني، الذي أعتبره مقصّراً في حق هذا الباحث الجاد، والذي من أدنى حقوقه على المثقفين ـ قبل القائمين على أمر الثّقافة ـ أن تجد أعماله هذه، النّظر والاعتبار منهم ومن الأقلام التي ظلّت تتخم القارئ بأسماء كتّاب، ليس لهم عطاء يضاهي عطاء هذا الباحث السّوداني العصامي الأصيل.
فصدّيق البادي يسعى ليل نهار وراء الحقائق والمعارف والشّخصيات التأريخية والمواضيع التي تؤسس لفضائنا الثقافي. فما يقدّمه الآن، بمجهوده الخالص الذي لم يسنده دعم رسمي ولا شعبي، يبقى خالداً، ويدفع الآخرين لتمثّل منهجه وسعيه، بنية سليمة وعزم صميم، وتفيض مساهمات الباحث صدّيق البادي لتنعكس على صفحات الصحف السّودانية، وفيها الكثير من الوضوح والجرأة والصدق، خاصّة عندما يمس الموضوع ولاية الجزيرة وإنسانها ومشروعها الزّراعي، وحاضرتها التي أصبحت جمهورية لأم سيسي، على حد قول أخي عبدالمحمد نورالدّائم الكرنكي، الذى أسعدنا تشخيصه للعلل التي سكنت مدينتنا الحبيبة ودمدني؛ والتي سوف نسهم بالكتابة عنها وعن أوجاعها الكثيرة التي توجع الكثيرين من أبنائها الذين هجروها مكرهين إلى ديار أخرى.
وهناك رابط دقيق ومخبوء يربط بين أحمد الفضل أحمد القاص المبدع والباحث النادر صديق البادي، فهما على نسق متقارب في التعامل الطيب ونكران الذات والتجرد من علق الدنيا الزائل، وهما عصاميان بمعنى الكلمة، لا ينكسران لصدمات الحياة القاسية، وبينهما مشتركات في التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، فطريقة التعامل مع الأزياء وأدوات الكتابة والنصوص الخاصة وتناول الطعام والرفقة الأدبية وطريقة الحوار مع الآخر كلها من المشترك الواضح بينهما مع تميز كل واحد منهما بخصوصية أدبية فنية تخصصية.
التحية للصديقين المبدعين أحمد الفضل وصديق البادي حفظهما الله .
محمد الفاتح أبوعاقلة
الأربعاء، 13 أكتوبر 2010
دواديب 2 Dwadeeb
دواديب (2)
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
عندما قال علي ود الطّيب النّجضاني، شاعر الحكمة والوعظ ـ رحمه الله ـ :
الدّرَبْ الطَّوِيلْ دَاير لى قِرْبَة وَتِيقَة
مابِمْشِي أبْ سِريويلاً مِسِيلُو بَنِيقَة
لِقيمْتَنْ مِنْ حَلالْ تَنْدَرِكْلُو حَقِيقَة
إبْرِيقْ ليلْ مَقَشَّط وتَبْنَتُو مِسَيرِيقَة
أشار إلى لوازم العمل والحركة التي تتبعها البركة، و"الفَرَّة أمْ دَرَّة ولا القَعْدة أمْ بُوم"، و"المَرْقَة الخَفَّاسِيَة" التي تفْضُل القَعْدَة "البِتَرْدَى زُولْها رَدِيّة"، وأضاف إلى هذه اللوازم، تواضع وزهد العارفين، أهل الطريق السالك إلى مراقي الصّفاء والطمأنية، فدلقون البَنِيقَة الصغيرة، المثلّث الملوّن على ساق السّروال "أب تِكَّة"، علامة على عجب النّفس، والزّهو والخيلاء عند الشّاعر، فالتجرّد منها ضروري وحتمي لعبور الطريق الدّرب، الدّاداب أو الدّيداب. والوصول إلى ميس السّلامة، يلزمه العمل في الخفاء خوفـًا من الرِّياء والسّمعة، فإبريق الليل "المَقَشَّط" ينادينا إليه في جو من خفوت الحركة والهدوء والسّكينة. واللقمة الحلال ما أطعمها ـ هنيئـًا مريئـًاـ بعد عناء وكدح نهار الحياة .
وفي مثل هذا الداداب تحرّك سعد محمّد علي موسى ود النِّصَيِّح ـ من أهالي بقّاري الأحامدة بمحلية الحصاحيصا ـ وأمسك بعدده المشدود على عصب الحضور العرفاني المتين، وساق قافيته الخالصة في ذوقها:
أنَا يَا نَفْسِي شَايْفِكْ ليّ مَا مِتَّبَعَه
عَاكَسْتِيني سَويتِي العِكَاسْ ليكْ طَبْعَه
أصْلِكْ جَافْلَه وأنَا بِي السُّوطْ دَه بَدِّيكْ لَبْعَه
بَخَلِيكْ هَامْلَة والهَامِل بِتَاكْلُو الضَّبْعَه
سوط العنج حاضر لجلد ظهر النّفس التي تتعب صاحبها، وتسوقه إلى دروب الرّهق والتّوتر، وهي إن لم تجلد بهذا السّوط الحارق، لتمادت جافلة في غيّها وطيشها وجنونها وهواها المهلك، وبهذا تكون لقمة طريّة في فم الضّبع الضاري الجائع!. والحوار معها أول درجات العافية، وخشم باب الفلاح والنّجاة من أذاها، وهو حوار ومونولوج يرتدي زيّ الإبداع الجميل، ويشحن النّص بطاقات من الشّعور الصّادق اللطيف.
هُوي يانَفْسِي سّاكَّة الدِّنْيَا مَا بْتَلْقِيهَا
جَرَّاي ما لْحِقَه وزُولْ أصْلو مَادَامْ فِيهَا
كُلْ أَعْمَالِكْ الفِي الدّنْيا سَوّيتِيهَا
صُرّة وخَيطْ هِنَاكْ يومْ النّشُورْ تَلْقِيهَا
سعد محمّد علي موسى ود النّصيّح، شاعر شعبي متميّز وله أسلوب متفرّد في التّعامل مع نصوصه الشّعرية، فهو يقوم بإيصالها للآخرين منغّمةً بصوته، على روايات الشّاشاى والدّوباي والمديح، وله ملكة قوية في الأداء الدّرامي المصاحب. لهذا تكتسي نصوصه أجنحةً تُمكّنها من التّحليف عاليـًا، وتعينه على شدِّ الحاضرين وكسب تفاعلهم ومشاركتهم في الفعل الشّعري الشّعبي، فهو أشبه بالتروبادور الذي يقوم بدوره المؤثّر في التّثقيف والإعلام الشّعبي.
وعندما يحاصر الشّاعر الذّات بالمكاشفة، والحوار الصّريح والجلد إن استدعى الأمر ذلك؛ يأتي الخطاب مترعـًا بالوعيد والتّحذير، فتقف "هووي"! والتي تقال في حالة الوعيد والتحذير، في مواجهة الذّات والنّفس، ولأنها نفس قلقلة عُرف عنها التعلّق بالدّنيا وزينتها؛ فهي أحوج ما تكون لهذا العلاج المر الموجع!.
والحقيقة ثمرة الحكمة والعقل الرّاجح الذي يخترق المجهول والمعمي، بحثـًا عن الأضواء المشرقة في قبو ودهليز النّفس المظلمة بران الدّنيا الحلوة. وصدق من قال:" العسل الببقو بشرقو". فالحلو إن أكثرنا منه وأدمنا تعاطيه أصبحنا أسرى له، وفقدنا طلاقة البشاشة والإرادة. فالشّئ ينتقل بسهولة من الإيجاب للسلب والضّد إذا تجاوز حدّه، تمامـًا كطائر الفينيق!.
وعلى تعلّق الموجود بالدّنيا، ومن متراكم خبرات الآخرين ومراصد الأسفار عبر التّاريخ، لم نسمع بمن لحق الدّنيا وأدركها وامتطى ظهرها، ودام له هذا المستقر دون أن يسقط ويقع ويزل عن متنها الزلق الأملس كجلد الحيّة. فمهما جرى وأبلى نعله وأرهق بدنه، فليس له نصيب دائم منها.
ياطه بلقاك والرّهاب بالع دَواديب الخَلا الوحداني
في روق القطا وفي نَمَّتـًا عَاجباني، في دَمْلُوج مَدَرْدَم من لِبَايتُو رِبينا
اتكرّعنا واتّوعنا واتربينا، كان في الطّينة، في أم بُقْبُق مع أم آلبينا
في حَنْتُوت قِدِر يلحس أصابع العينة. في الرَّايهوبة غَزْ ودْعينو! خَتَّ يقينو في العَدَد البَداهُو أبْ شَام
ورَمى مُقْدَافو لا قِدّام واتحَتْحَت رَمَى الهَدَّام وكان عَوّام
وفي كَبد البَقُونَة يرارى قلبت صُوفة الحَسَس الولا نَوّام
إلى أنْ أقول:
ماالرّارايا لامن تبقى هَجْرة طوبة، يا تلقاها في أسْبار جبال النُّوبة
واللا على هِدِم مَكْرُوبة في صُرَّة طَرف حَبوبة!
والرّارايا ما بِدروبا غَاتسة دُروبه قَنُّورِيبة سَايقَة هبوبه
ها اليلهوبا خَل اليلعبُوبا الهُوبة! أصْلها تَارّة يوم مقلوبة!.
وهكذا هي الدّنيا "الرّارايا" عندي ، يتبارى الشّعراء في ذكر مفاتنها ومغرياتها وتلّونها وغيرها وأحوالها، ولا فكاك من العيش فيها والتّصالح معها، بما يكفل لنا ولكم السّلامة والنّجاة من شراك خيوطها التي لاتشبهها إلا خيوط بيت العنكبوت! وقديماً قال الطغرائي، أبوإسماعيل، الحسين بن علي (453هـ - 515 هـ) :
ترجو البـقاءَ بِدَارٍ لا ثَبَاتَ لها فهــــلْ سَمِعْتَ بِظِلٍّ غيرِمُنْتَقِلِ؟.
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة 4/4/2008م
The properties of the Sudan Traditonal Poetry
ما أعذبَ الموسيقى التي تَسري في أوصالنا، حينَ تُهْصرُ عناقيدُ ألفاظِ القصائدِ، فهي الشّيء الذي لا يُسمّى ولا تُحاصرُه هوامشُ الشّرح، ومتونُ العباراتِ، التي بردتْ من جرّاء كثرةِ الطَرق، والمباشرة والاستهلاك .
وسحائبُ الشّعر عندما يطعنها البَرْقُ، يُنثالُ رَحيقُ أحشائها الأثير، ولكنها مع كلّ هذا الاندلاقِِ، لا تتكشّفُ ولا تتعرى، بل تظلُّ منيعةً في رَحابةِ فضاءِ المتخيّلِ اللانهائي.
إذن فما الّذي أُهريق ؟.
وماهو طعم القصائدِ فورَ شفائها من جِراح البّرق الذي يأخذُ الأبصارَ فتعشى وتعمى ! ولا بأس! مادام هنالك قنديلُ وجدٍ وضيء، في آخر دهليز القلب الذي يَرى! وما أحْلى وأروعَ ما يرى!.
خفف الوطء على أديم القصائد، التي أجنتُها السّنا والعطر والسّحر، وها يا صاحبَ الوجدِ القديمِ، إذن تَعزَّى، ليس في الشِّعر مجال للتحلَّل من فيوض الرؤى، والرّموز والأقنعة والإشارات.
وشعرنا الشّعبي، حقول من الرّوعة والتَّفرَّد والصِّدق، فهو لسان حال، على هيئة مقال عفوي، ينساب سهواً رهواً، جزلاً وطلقا.
هذا مشروع مفتوح لمحايثة الصّوت الحي في بعض أشعارنا الشّعبية، في معيّة شعراء لم تتجه نحوهم عدسات الرّصد النّقدي، بالرّغم من أنّ معظمهم أحياء بيننا، وقلّة منهم رحلوا عنّا إلى رحمة مولاهم في فترة قريبة. لهذا حرصت في هذه الدّراسة، على إيراد أغلب النّصوص كاملة، ليقف القارئ على البناء الكامل للرؤية الشّعرية عند الشّاعر الشّعبي.
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)