التّنوير والتّثقيف
إصدارة يقدّمها لكم قسم التّنوير والتّثقيف بإدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية بجامعة السّودان المفتوحة.*للاتصال: E-mail: moelfat@ous.edu.sd
موبايل: 0912383850
تليفون: 0120840812
*صورة الغلاف، نحاس النّاظر يوسف جميل ناظر رفاعة، الشّبارقة، (رحمه الله).
بسم الله الرّحمن الرّحيم
محتويات العدد
المُشْرف العام
البروفسير عبد القادر محمود عبد الله
رئيس التّحرير
أ. محمّد الفاتح يوسف أبو عاقلة
هيئة التّحرير
د. سامية بشير دفع الله.
د. بدرالدين عثمان طه.
التّصميم الفنِّي والإخراج
هشام صلاح حسين
عن التُّراث الشَّعْبي
من كلمة للبروفسير أحمد الطيّب محمّد مدير جامعة السّودان المفتوحة، في لقاءٍ للجامعة مع عرب القريَّات في أطراف أُمْ بَدَّة بأم درمان
"رأت جامعة السّودان المفتوحة، أن يكون لها دور متميز في مجال الاهتمام بقضايا المجتمع الأساسية، وأن تهتم بقضية من قضايا السودان الأساسية، ألا وهي قضية التّراث الشّعبي المتنوّع، المنتشر في السّودان كلّه، خوفـًا عليه من الضّياع إذ أن هناك كثيراً من الحراك الاجتماعي الآن، وكثيراً من المشاكل، وكثيراً من القضايا، أدّت إلي أن يندثر هذا الأدب الرّفيع، وهذا التّراث القيّم، وربما نفقده قليلاً إن لم نهتم به اهتمامـاً بالغـًا. لذا فإن الجامعة الآن في إدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية، قد أنشأت لها قسماً خاصًّا يهتم بالتُّراث الشعبي، وهذا القسم إنْ شاء الله سيقوم بتوثيق هذا التراث الشّعبي في مظانِّه، وعند الثقات فيه، في كل السّودان بكل أنواعه، وسننشره إن شاء الله سواء كان مكتوبـًًا أو مسموعـًا أو مرئيـًّا، حتى نحافظ عليه للأجيال القادمة، فنحن نعتبر أن هذه ثروة نخشى عليها من الضياع، ونسأل الله أن يعيننا، وأن يوفقنا في أن نحفظها للأجيال القادمة من بعدنا بإذن الله تعالى، وأسأل الله تعالى لمن يقومون علي هذا الأمر التّوفيق والسّداد".
البروفسير أحمد الطيّب محمّد
مدير جامعة السّودان المفتوحة
***
افتتاحية العدد
البروفسير عبد القادر محمود عبد الله
مدير إدارة البحوث والتّخطيط والتنمية
باسم الله العلي القدير تصدر إدارة البحوث والتخطيط والتنمية بجامعة السّودان المفتوحة إصدارتها الأولى للتنوير والتثقيف. وقف على جمعها وتحريرها والمشاركة فيها الأستاذ محمد الفاتح يوسف أبو عاقلة، رئيس قسم التنوير والتثقيف بإدارة البحوث والتخطيط والتنمية.
إن الغرض من هذه الإصدارة هو تنوير القارئ السوداني بخاصة وتثقيفه بموضوعات مختلفة من المعارف، بلغة سهلة وعرض واضح مبسط يناسب القارئ غير المتخصص. حجم الإصدارة محدد كمية ومقاييس، بحيث يستطيع القارئ أن يقرأها في وقت قصير وأن يضعها في جيبه ليقرأها متى وأينما أراد.
وإن غلبت على هذه الإصدارة الأولى الموضوعات الآثارية والتراثية الشعبية، فإن هذه السمة لن تكون سمتها الوحيدة. إذ ستتناول موضوعات في مختلف المعارف الأخرى. كما أنه لا يشترط أن تنحصر الكتابة فيها في إدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية بخاصة ، أو جامعة السودان المفتوحة بعامة. فالمجال مفتوح موضوعاتٍ ومؤلفين.
وبما أن رسالة الإصدارة تنويرية تثقيفية فقد وكلت أمرها لقسم التنوير والتثقيف، وتحريرها للأستاذ محمَّد الفاتح يوسف أبوعاقلة، رئيس القسم. ستكون هذه السلسلة من الإصدارة موازية لأخرى أوسع منها موضوعاتٍ. هي سلسة السودان الثقافية، يشرف عليها ويحررها البروفسير عبد القادر محمود عبد الله، مدير الإدارة.
لعل من المناسب في بداية هذه المناسبة أن يذكر أن جامعة السُّودان المفتوحة ترى من واجباتها الأساسية توثيق تراث السودان الآثاري والشّعبي ودراسته وتحليله ونشره. لذا نشط قسماها، وهما قسم التَّوثيق وقسم التَّنوير والتَّثقيف، في هذه المهمة.
تمثل دور قسم التوثيق في توثيق الآثار السّودانية الثابتة والمنقولة وفي ترجمة أمهات الكتب عنها التي سترى النور قريباً إن شاء الله تعالى.
ففي التوثيق الآثاري شملت جهودها سيناريويْن. أحدهما مكتوب والآخر مصوًّر للجبانات الملكية بالبجراوية تمهيداً لأفلام وثائقية عنها. كما شمل مشروعاً قوميًّا ضخماً في إطار التعاون بين جامعة السودان المفتوحة والهيئة القومية للآثار والمتاحف. بدأ الآن بأفلام مصورة مصحوبة بالشرح لكل القطع بمتحف السّودان القومي، تنفذه إدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية مع إدارة إذاعة وتلفزيون جامعة السودان المفتوحة. يتولى الشرح فيها مدير إدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية، والدكتورة سامية بشير دفع الله، رئيس قسم التّوثيق.
أما الترجمة إلى العربية وفي جهود في مسارين لقسم التوثيق، وقسم الترجمة والتعريب، اكتملت ترجمة بعض أمهات كتب الآثار والرحالة الغربيين إلى السودان في القرن التاسع عشر. وفي قسم التوثيق تُرجمت المجلدات الأربعة الأولى عن الجبانات الملكية السُّودانية، بالكرو ونوري والبجراوية. أسندت ترجمة هذه الكتب لقسم التوثيق لطبيعتها الآثارية المتخصصة، والذي ترأسه الدكتورة سامية بشير دفع الله، التي ترجمت وحدها ثلاثة منها. وأوكلت ترجمة كتب الرحالة الغربيين لقسم الترجمة والتعريب برئاسة الدكتور فضل الله إسماعيل علي والذي بنفسه ترجم كتابين الآن، أولهما كتاب "لينان دو بلفون" عن رحلته إلى مروي، الذي سيطبع قريباً إن شاء الله تعالى.
وفي مجال التّوثيق التُّراثي الشعبي قام قسم التنوير والتوثيق بالتّوثيق للمواد التُّراثية، وبالحوار السمعبصري ( بالصّوت والصّورة ). اضطلع بكل ذلك الأستاذ محمد الفاتح يوسف أبوعاقلة وأشرف على جمعها وحفظها.
ولقد شرع فعلاً في هذا العمل الحيوي، حيث امتد توثيقـًا مع قبيلة "القِريَّات" و"البَزعة" و"الدّينكا" و"رفاعة" و"الكَبابِيش" وبني جرّار. وذلك تسجيلاً بالصّوت والصّورة بتقنية عالية، وفي المواقع الطبيعية المفتوحة؛ الشيء الذي يجعلها تؤسس بنية أولى طيّبة من الرصيد الخام، الذي سنجعله بإذن الله تعالى متاحـًا لدارسي التّراث الشّعبي السّوداني بالجامعة كمادة خـام، تم جمعها وفقـًا للموجهات العلمية الرّصينة لمناهج جمع التّراث الشّعبي.
توّجت الجامعة اهتمامها بالموروث السّوداني القديم وكذلك الموروث السّوداني المصري المشترك، بإدخاله في الدراسات العليا ببرامج الدراسات السودانية المصرية القديمة، والسّياحة والإرشاد الأثري، والآثار الإسلامية والموروث الثقافي الشّفاهي والمادي، السوداني بخاصة. ستبدأ معظم هذه البرامج في خلال عام 2008م إن شاء الله تعالى.
***
الصورة 1: المرحاكة
كلمة التّحرير
القرّاء الكرام
السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، باسم الله نبدأ هذه الإصـدارة، وعنايتنا تتجـه نحـو
الأصـيل الرّاسـخ مـن تراثنا
الآثاري والشّعبي، الذي نرى فيه
مرتكزاً ومنطلقـًا لشتى الـرؤى
والفكر.
فهو تركة الأجـداد للأحفاد، وبه
وبتمثله يمكننا أن نحاور الآخر. فهو سمتنا وملمحنا التاريخي، وبـذرة حضورنا الإنساني وتجربتنا البكر في مدارات الحياة الكريمة. وجامعة السّودان المفتوحة من خلال رسـالة إدارة البحـوث والتّخطيط والتنمية، وعبر الخطة العامة لقسم التنوير والتّثقيف وأهدافه، تسعى لجمع التّراث الشّعبي ورصده وتحليله ودراسته وفق معايير معرفية ومنهجية. وذلك عدا المحاضرات التنويرية والتثّقيفية داخل الجامعة وخارجها والتي نظمها قسم التّنوير والتّثقيف- تجدها آخر الإصدارة-.
وإدارة البحوث والتخطيط والتّنمية، بجامعة السّودان المفتوحة إذ تسهم بهذه الإصدارة السهلة التّناول، تسعى لرفد السّاحة الثقافية السّودانية بمادة تراثية قيّمة وبسيطة ومتنوعة، ترى فيها قدراً كبيراً من النفع والإمتاع والتّشويق للباحث في الثّقافة السّودانية وللقارئ السّوداني.
إذن! هي دعوة منّا لكم، للتواصل معنا قراءةً وكتابةً في هذه الإصدارة مع التَّقدير.
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
رئيس قسم التّنوير والتّثقيف.
حوار المـــاضي والحاضر
محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
بين الماضي والحاضر حوار مستمر، وهو من السّمات التي تسمّي حياة النّاس عبر كلّ المواقيت والأماكن. وهذا حوار نافع ومفيد لأنه يؤدي لتصحيح مسار الحياة، ويضبط توجهها نحو الأفضل والأكرم للنّاس.
هناك العديد من الشواهد التي تدلل على هذا الحوار في تراثنا الشّعبي السّوداني، والذي ينبع من ارتباط النّاس وحنينهم للقديم والماضي، ومحاولة المقابلة بين ما كان وما هو كائن في واقع الحياة المعاشة.
يقول الشّاعـر عبد العظيم
العبيد التّوم "السّدراني"، وهو
من مواطني قرية "الرّفاعيين
الفـوق"، بولاية الجـزيرة،
محـلية شــرق الجـزيرة،
مخاطبـًا فتيات اليوم:
أحَمْـدَنْ رَبَّكَـنْ واتْبَاشَـرَنْ بِالخِيـۤرْ
زَمَنْكَن فَاقْ عَلِىۤ الزَّمَنْ القِبِيۤل بِالحِيۤل
سَفَرْكَـنْ ذَاتُـو سَاهِلْ تَرْكَبَنْ مُوۤدِيلْ
وَقُودَكَنْ غَازْ مُو الفَحَم الشَّرَارُو بْطِيرْ
***
أحَمْـدَنْ رَبَّكَـنْ ؤصَلَّـنْ الأوْكَـاتْ
زَمَنْكَنْ أخِيۤر كَتِيرْ مِنْ الزَّمَانْ الفَـاتْ
لباسكن جايي مستورد كمان موضاتْ
وقـُودْكَنْ غَازْ ومَا فَزَعُولُو بِالبِلْـدَاتْ
***
فالمقارنة بين وظائف الغاز، من ناحية، والفحم، والحطب الذي يحتطب "يفزع" له النّاس قديمـًا بالبلدات- وبعضهم لازال يفزع ويبحث عن الحطب في البلدات والغابات القريبة- من ناحية أخرى، تشير إلى تصالح هذا الشاعر مع الجديد في مجتمعه.
وهذا يقارب قول الشّيخ علي محمّد قيامة (رحمه
الله )، وهو من "الكُتُوتَاب" ضواحي تمبول:
الزَّمَـنْ العَليۤنَـا أحْسَنْ عَليۤ القُبَّالُـو
وَالنَّاي البَعِيـدْ عَجَلْ السِّفِنْجَة دَنَالُـو
أبُوثَرْوَة البِضُوضِحْ لا الصَّبَاحْ نَشَّالـُو
أمْسَى الليلَـة فِي مَهَلَة وسَرُورَة بَالُو
هذا تقرير صريح عن فضل الزمن الرّاهن، وتنويع على إبراز محاسنه. فصاحب الثروة أي البهائم، الذي كان يتعب الليل كله وحتى الصباح الباكر للحصول على الماء لبهائمه، أصبح اليوم مطمئن البال! كما أن السّيارات السّريعة قد قرّبت المسافات وأدنت البعيد للنّاس.
ولعبد العظيم بابكر زروق الكردوسي- من الكراديس قرب القضارف- رأي مغاير للرأي السّابق:
كَانْ الجِيلْ زَمَانْ خُـدْرَة وْصَفَارْ نَايرِينْ
مِنْ دَخَلْ الكِريۤم فِي شَبَابْنَا جَـا البُشْتِيۤنْ
تَجِيـكْ الوَاحْدَة زَي كَبْسُولَة بِى لُوۤنِيۤـنْ
الوَشْ ضَـاوِي لامِـعْ زُرُّقْ الكُرْعِيـۤن
***ْ
يَا حْلِيـۤلْ الزَّمَـنْ قَبَلْ الحَضَـارَة تْجِيـنَا
زَمَـن النّاس قلوبن طيبـة صافية حنينة
زَمَـنْ المَـرَأة غِيـۤرْ كَفِّيۤـنَا مَـا بْتُورِيِنَا
زَمَـنْ البَقَــرَة بِـىۤ جِيرَانَـا بِتْعَشِّيِـنَا
الصُّورة3: بيت الشـُّقَّة من الشَّعَر لدى قبيلة رُفَاعة. تتدلى منه مصنوعات للحياة اليومية وللزِّينة (متحف صغير متجوِّل).
الصُّورة4: السِّيبة. حامل قربة المـاء.
يَا حْلِيـۤلْ الزَّمَانْ زَمَـنْ الشَّبَـابْ الفَاتْ
مَـا لِبْسَـنْ مَلافِـحْ ؤشَمَّعَـنْ واقْفَـاتْ
مِنْ غِيـۤرْ الكِرِيۤمْ والرُّوۤجْ ظُرَافْ سَمْحَاتْ
بِىۤ الكَرْكَـارْ ؤبِىۤ حَطَـبْ الطَّلِحْ نَايْرَاتْ
وهنا نقف على عدم قبول للجديد، بل نجد الحزن الموجع على فقداننا للقديم، ونذكر قـول الشـّاعر الشّعبي الأمين ود خير:
يَا بَنُّوتْنَـا عِيۤبْ الصَّي تَعَالَـنْ أشُورْكَنْ
نِحْنَ خَتَرْنَا كِيۤفْ حَالْكَن مَعَ أوْلادْ دُوۤرَكنْ
أعَرْفَـنْ لاعْبَنْ الدَّرْهَانْ ؤنَفْسُو تَدُورْكَنْ
أنَا شُفْـتَ الشَّمِسْ طَقْ قَابَلتْ صَنْقُورَكَنْ
***
وهكذا تتباين الآراء في نصوص الشّعر الشعبي، بعضها يناصر القديم ويحن إليه ويرى في التمسك به خلاصـًا وفكاكـًا من كل معضلات الحياة. وبعضها الآخر يرى أن الجديد الرّاهن المعاصر لا بد منه وفيه خير كثير لتجدد أحوال الناس في زمان مختلف عن الزمان الماضي. وكلا الطرفين له ما يبرر ويسند به رأيه.
وأنت ونحن أيّها القارئ الكريم، يحق لنا الحكم بين الرأيين والانحياز إلى أحدهما أو الإدلاء برأي توفيقي جديد، فهناك دائمـًا مساحة متاحة للرأي الآخر.!.
ومن الملاحظ أن الظـواهر الاجتماعية التي أشار إليها الرأي الذي يأسى لتفكك النسيج الأسري، وضعف الأواصر التي تصل النّاس بأهلهم وذويهم، لها ما يبررها ويؤكدها. فالأوساط التربوية تشير إلى هذا الأمر، لأنه من الظواهر التي تتأثر بها حياة الإنسان السّوداني في كافة المجالات.
والمرأة محل تقدير وإعزاز، ونصوص الشّعر الشّعبي تسمّي ذلك التّقدير وتدلل عليه بحرصها علي قيمة المرأة، ومكانتها في المجتمع السّوداني الذي يستند علي ديننا الحنيف، وأعرافنا ومواريثنا الرّاسخة.
زينة المرأة السّودانية بين الماضي والحاضر
د. سامية بشير دفع الله
هناك عادات وممارسات كثيرة تتعلق بزينة المرأة كانت تمارس إلى وقت قريب في مجتمعاتنا بمخـتلف طبقاتها فـي أواســط
السودان وشـرقه وغـربه. وقـد شهدت الكاتبة جانباً كبيراً منها تمارسه الخالات والعمات وإلى حد ما بعض الأخوات. لكن معظم هذه العادات بدأت تتوارى أو تندثر تدريجيًّا خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة؛ خاصة في المدن والمجتمعات الحضرية المفتوحة. لكنها ربما استمرت في الأرياف والمناطق النائية. عند البحث عن أصول هذه العادات وجذورها سيكتشف الباحث أنها تعود إلى عصور قديمة جداً في تاريخ السودان لا نستطيع تحديد بداياتها تحديداً قاطعاً. ولكن يمكن إرجاع أقدم الأدلة المحصلة، إلى فترة احتلال الدولة المصرية الحديثة لشمال السودان (القرون 15-11 قبل الميلاد) كما تؤرخ أدلة أخرى للفترة المروية، عصر الملكات العظيمات ( حوالي 50 قبل الميلاد -50 م ).
إن اختيارنا لموضوع زينة المرأة السودانية باعتباره مجالاً يجسد الإرث السوداني القديم هو اختيار عفوي، نرجو أن يكون فاتحة لموضوعات أخرى من هذا النوع. فالإرث القديم ظل ماثلاً بدرجات متفاوتة في ممارسات كثيرة تشمل: عادات الزواج، الختان، النفاس، البناء ومواده وأدواته، الزراعة وآلياتها، الملابس بشكل عام، الصناعات والحرف وموضوعات أخرى. في الفقرات التالية نستعرض جانباً من الممارسات التي تتعلق بزينة المرأة السّودانية الحديثة، ونذكر الأدلة التي تدل على قدم تاريخها، واستخدام المرأة السودانية لها في ذلك التاريخ القديم.
تصفيف الشعر
تشير الدلائل إلى استخدام أكثر من طريقة للتعامل مع الشعر وهي:
المُشاط
المشاط هو المصطلح السّوداني الذي يشير إلى طريقة معينة في تصفيف الشعر. هي طريقة "الجدل" أو "الضفر" في جدائل تتراوح في سمكها وبالتالي في عددها؛ والجَدْل في واقع الأمر هـو الأسلوب المشترك في العمليـة. لكـن بالإمكان التفنن في تقسيـم الشّعـر
المجدول بطريقة تنتج عنها تصميمات مختلفة. وقد يكون لطبيعة الشعر نفسه دور في اختيار التصميم. لكن، بشكل عام، فإن جدل الشعر يناسب طبيعة الشعر السوداني الذي يكون ما بين مجعّد وصوفي قصير. هذا مع وجود الشعر المرسل الطويل ( السبيبي ) أحياناً. بالإضافة لميزته الجمالية، فإن الجدل يحافظ على الشعر مرتباً ومنمقاً لفترة أطول مما لو ترك بغير جدل.
الصورة 1. فيها أميرات سودانيات كن في زيارة لمصر في زمن الفرعون المصري المشهور توت عنخ آمون ( حكم 1361-1352 قبل الميلاد ) ظهرن جميعهن بشعر مجدول ، تنتهي كل ضفيرة بشيء صغير ربما يكون ودعة أو خرزة. أصل الصّورة من مناظر تزخرف قبر أحد الوجهاء المصريين يسمى "حُوِي" كان قد شغل وظيفة هي بمثابة حاكم عام لشمال السودان على عهد توت عنخ آمون.
جمع الشعر وربطه من الخلف: يدل على هذه الطريقة تمثال صغير من "القاشاني" عُثر عليه في أحد القبور بقرية صنم أبو دوم. صار يعرف بتمثال "الفتاة السابحة".
تبدو الفتاة بملامح سودانية واضحة، وبشعر طويل كثيف قامت بجمعه في شكل كعكة وربطه في حلقة ( من قماش ) من الخلف.
قص الشعر كأقصر ما يمكن: أو هكذا يبدو شعر الملكات تحت ألبسة الرأس التي يلبسنها مثل الطاقية السّودانية القديمة وهي من شارات الملك، أو تيجان أخرى. وربما اقتضت تلك الألبسة أن يحلق الشعر بهذه الطريقة المعينة.
الحلي والمجوهرات: من الصورة نفسها يلاحظ المرء الأساور على معاصم الأميرات، لونها الأبيض يشير إلى أنها مصنوعة من العاج. وكان العاج من السلع الغالية والمرغوبة، وتتنافس على الحصول عليه مصر ودول البحر المتوسط؛ فلا يقتنيه إلا الأثرياء.
من ناحية أخرى كانت الأساور و"الحجول" العاجية مستخدمة في جهات كثيرة من السودان، لوقت ليس ببعيد ( وربما ما زالت توجد في بعض المناطق ). كذلك كانت في الماضي. وجاءت الحفريات بنماذج كثيرة منها. بالإضافة للحلي الظاهرة في التّصاوير تم الحصول عن طريق الصدفة على "كنز الملكة أماني شخيتو"، المشهورة في الفترة المروية، لكونها جاءت من هرمها الموجود في الجبانة الشَّمالية بمنطقة البجراوية الملكية. مما يدعو للدهشة أن بعض الحلي المروية تكاد تكون مطابقة لحلي حديثة ما زالت تستخدم إلى يومنا هذا. انظر بخاصة سوار الثُّعبان الذَّهبي ( الصورة رقم 2 ) والسوار الآخر العريض والثالث ذو الحبات التي تشبه حبات اللوز، ويلاحظ على الأخير، مجيئه مع زوج من الأقراط ليشكل طقماً ( صور 3 ، 4 ، نفس المرجع، ص 17 & 24.).
أما الحلية الأخرى، التي لسبب غير مقنع أطلق عليها رجال الآثار حلية "الكولة"( Collar الصورة 4 )، فهي تشبه إلى حد كبير "اللِّبة" السّودانية ؛ فكلتاهما تتكون من أربعة صفوف أو أكثر، وكلتاهما تتدلى من العنق لتغطي الصدر. الفرق بينهما هو أن حلية الكولة مصنوعة من أحجار كريمة وخرز وقاشاني، واللبة السودانية مصنوعة من الذهب. بجانب الكوۤلة ظهرت الملكة أماني شخيتو ( وكذلك الملكة شنكدختو ) بعقد طويل ذي دوائر يصل إلى منطقة البطن، وهو بحسب إحدى السيدات المعاصرات يشبه إلى حد كبير العقد المسمى "عقد الفَرَجَلات" الذي تتزين به العروس السودانية. الجدير بالذكر هنا أن ملوك الفترة المروية كانوا يلبسون الحلي. أما العقد الذي ظهرت به إحدى الأميرات الملكيات في منظر من النقعة فهي حلية التِّيلة المكونة من عدد من الجنيهات الذَّهبية أو أنصاص الجنيهات المعروفة باسم " جنيه جورج".
تكحيل العينين ورسم الحواجب ( المكياج)
في الصورة 1 وفي كل صور الملكات المرويات يلاحظ المشاهد أثر الكحل واضحاً على العيون والحواجب. بالنسبة للعيون يمتد أثر الكحل إلى خارج العين من الناحيتين مما يحدث انطباعاً باتساع العينين.
كشفت التنقيبات في كثير من المواقع عن وعـاء صغير لحفظ الكحل ( مكحلة ) مصنوع من خشب أو عاج وبداخله قضيب معدني نحيف يستخدم بنفس طريقة قلم الكحل الحديث ( الصورة 5 ). لكن من المؤكد أن المكحلة كانت مستخدمة في السودان لوقت قريب. وقد شاهدت الكاتبة نماذج منها. كانت تٌملأ بكحل بودرة، وتُحضر في المنازل أو تباع في الأسواق. وتشهد الكاتبة أن جيل الأمهات والخالات لم يستخدم قط قلم الحواجب الحديث. كن يطلقن على القضيب المعدني اسمه العربي الفصيح القديم، هو "المرواد". يستخدمنه للتكحيل ولرسم الحواجب على شكل هلال بعد تشذيبها بالملقاط . أما الملاقيط فقد عثر الآثاريون عليها بأعداد كبيرة جداًً من كل المواقع الراجعة للفترتين النبتية والمروية تقريباً من تاريخ السودان القديم، تكاد لا تخلو حفرية من معثورات لهذه الأداة. كما عثروا كذلك على أصباغ وألوان استخدامها غير معروف تماماً، لكن هناك من اقترح أن تكون لها علاقة بمكياج النّساء.
تشذيب الأظافر وطلاؤها
بالرجوع مرة أخرى للصّورة 1 للنظر في أصابع الأميرات السودانيات، يكتشف المرء أن أظافرهن قد شذبت بطريقة معينة؛ حيث تركت لتنمو وتطول، ولكن ليس على الطريقة الهمجية القذرة، وإنما على الطريقة الحديثة نفسها، التي تتبعها الفتيات والنساء ذوات الاهتمام بالأناقة والمظهر الجميل. ليس ذلك فحسب، بل نشاهد بوضوح كبير أن الأظافر عليها طلاء ذو لون فاتح. تنطبق الملاحظة نفسها على أصابع الملكات المرويات اللائي مر ذكرهن.
صندوق حفظ الحلي وأدوات المكياج
إن صندوق حفظ الحلي وأدوات المكياج من الأشياء الأساسية لكل امرأة تهتم بزينتها وجمالها. ومع اعتقادنا بوجوده كأمر بديهي، فقد جاء التأكيد من التنقيب، حيث عُثر على نماذج منه مصنوعة من الخشب المطعم بالعاج؛ وهي ليست مجرد صناديق عادية لكنها تصنف في مقام التحف، إن شكل الصندوق ( إذا استثنينا الزخرفة ) يذكر بحقيبة العروس التي تهدى لها مع "شيۤلة" الزواج.
الملابس
كانت ملابس النساء الثريات كما يبدو من الصورة 1 في منتهى الجمال، وبخاصة في طريقة تفصيلها. أما مادتها فيبدو أنها كانت تصنع من القماش مثل أفخم الملابس المستوردة في ذلك الوقت. تظهر إحدى الأميرات بفستان طويل إلى القدمين وبأكمام قصيرة ، بينما تلبس الأخريات ( صغيرات السن) فساتين قصيرة إلى الركبتين وبأكمام قصيرة أيضاً. فيما يبدو كانت الألبسة القصيرة للبنات دون سن البلوغ. التّصاوير الأخرى من الفترة المروية تظهر فيها ألبسة التنورات والبلوزات. وهناك أيضاً لباس نسائي يشبه ما اصطلح على تسميته اليوم بالعباءة.
الخرائط التّراثية
د. بدر الدين عثمان طه
مدخل
الخريطة (الشكل 1) أثر وتراث وفن وعلم قديم، وأداة مهمة ألفها واستخدمها الجميع ذهنيًّا ويدويًّا في كافة أوجه الحياة.
ففي الماضي، قبل أكثر من 35000 سنة رسم الصيادون في أوروبا ومناطق أخرى في العالم صوراً للحيوانات التي اصطادوها على جدران الكهوف (الشكل 2). وصاحب هذه الرسومات رسومات خرائطية خطية مطولة للدروب التي سلكتها رحلات الصيد وطرق الهجرات والتنقل. أما في الوقت الحاضر فقد ازدادت الحاجة إلى الخرائط لتحديد المسافات والطرق والمساحات وغيرها من المظاهر المكانية العديدة وتوضيح الظواهر الطبيعية والبشرية وتفسير العلاقة المتبادلة بين الإنسان والبيئة.
الخرائط
الخرائط نماذج مكانية تمثل كافة الظواهر الجغرافية وعلاقاتها الطبيعية والبشرية وفقاً لمقاييس وأغراض متعددة ومحددة. وتتباين استخدامات الخرائط وأهدافها لتشمل التعريف الجغرافي بالمكان، وتنظيم المعلومات المكانية وتخزينها وفهرستها بغرض الاستفهام والتحليل الجغرافي المرتبط بكافة المجالات. وتحتوي الخرائط على معلومات الظواهر الجغرافية الطبيعية أو البشرية بأسلوب ترميزي محصور بين النقطة والخطو المساحة بالإضافة إلى الألوان والكتابة بأسـلوب كمـي أو نوعي بناء على استخدام مقياس ومسقط مناسبين.
أنواع الخرائط
الخرائط أنواع كثيرة، تشمل الخرائط الجغرافية، التي تتمثل في الخرائط التضاريسية والجيولوجية والسياسية، والعمرانية والحضرية والثقافية والتراثية. أما الخرائط الطبوغرافية فتهتم بإبراز الظواهر الطبيعية مثل الجبال والأنهار والبحار والأودية والظواهر البشرية مثل الطرق والمباني والمواني بصورة أكثر
تفصيلاً. وهنالك أنواع أخرى تتمثل في الخرائط الموضوعية التي تركز على تمثيل ظاهرة معينة وعدم جمعها مـع غيرها وذلك بهدف
إلقاء الضوء على التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرة. ويشمل هذا النوع الخرائط السياسية وخرائط التربة وخرائط السكان وخرائط الغطاء النباتي والخرائط التاريخية والتّراثية.
الخرائط التراثية
الخرائط التراثية خرائط جغرافية ثقافية أو بشرية تجسم أو ترسم في مقاييس مادية ورقمية مختلفة وفقاً لمعايير الخرائط المعروفة، لتمثل الأماكن والمعالم التراثية وعلاقاتها الطبيعية والبشرية. هذا المنظور يعتبر الخريطة أداة علمية لتمثيل التراث وترميزه في مقابل منظور آخر يعتبر الخرائط، خاصة القديمة منها ( الشكل 3 ). موجودات تراثية، مثل خريطة الإدريسي ( الشكل4 ).
الشكل 4: خريطة الإدريسي الشهيرة التي يبدو يتجه شمالها إلـى أسـفل، بعكس الخرائط
يعد محمد بن عبد الله بن إدريس المعروف بالشريف الإدريسي (493-560 هـ)، من مدينة سبتة بالمغرب، أعظمَ الجغرافيين والرحالة والعلماء المسلمين. وله مؤلفات في التاريخ والأدب وعلم النبات والفلك والشعر. قضى معظم حياته متجولاً ما بين بلدان آسيا وأوروبا وإفريقيا. اهتم الإدريسي كثيراً بالجغرافيا، وترك عددًَا من الخرائط لمنابع نهر النيل والبحار وأقاليم العالم القديم. يعتبر كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" من أشهر أعماله، الذي استغرق جمعه وإنجازه خمسة عشر عاماً. وأصبح كتاب الإدريسي (بشهادة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها "شمس العرب تشرق على الغرب") موسوعة جغرافية قيمة تحوي وصفاً كاملاً للمدن والبلاد وطبيعتها وثقافتها والنشاط البشري فيها. رسم الإدريسي خريطة للعالم على لوح مستطيل من الفضة، اشتملت على عدد كبير من الأسماء. وصنع أول مجسم لكرة أرضية دقيقة عُرفت في التاريخ من الفضة الخالصة. تزن 400 رطل. نقش عليها صور الأقاليم ببلادها، وأقطارها وريفها وخلجانها وبحارها ومواقع أنهارها وعامرها والطرق والمسافات بين البلاد والمراسي، حسب مبلغ علمه.
امتد أثر الإدريسي إلى جامعة كلارك الأمريكية التي قامت بتطوير برنامج لنظم المعلومات الجغرافية أسمته Idrisi تقديراً لجهوده في مجال الجغرافيا واستخدام المعلومات الجغرافية خاصة في عمل الخرائط والتحليل الجغرافي. وأصبحت التقنية الحديثة مساهمة عظيمة في حفظ وإعادة رسمها، الخرائط التُّراثية القديمة وإنجاز خرائط تراثية حديثة تعكس الأماكن والمعالم التراثية في كثير من المدن والدول لاستخدامها في التعليم والتطوير والمحافظة على التراث وتشجيع السياحة (الشكل 5).
***
قصة قصيرة
قطار الأحزان
د. محمد صالح عبد الرءوف
تحركنا من محطة الخرطوم بقطار كريمة، المتّجه إلى شمال السّودان قاصدين مدينة مروي، ومعي أربعة من طلاب الجامعة، في رحلة علمية لزيارة آثار أجدادنا في شمال الوادي. وكان معنا بعربة القطار (القَمَرَة). رجل كبير السن، ذو لحية بيضاء، يداعبها بيده بين حين وآخر.. عيناه ذابلتان تحتضنان دمعـًا غائراً، وتعلو وجهه الشّاحب مسحة من الحزن الشّديد.
قلت في نفسي، ربما يكون هذا الشيخ قد ودّع أبناءه الذين ابتلعتهم الخرطوم مثل غيرهم، منذ زمن طويل... مـا أشقى الآبـاء في الشمال! ومـا أتعس الأمهّـات!. فلذات أكبادهن تملأ المدن العامرة، وجوفهن لا يملؤه غير الحزن والأسى!. أحزان الشمال كلّها اغتراب... أغنياته لا تحكي غير السّفر والفراق... تطلب من الطير المهاجر في الخريف لأرض الوطـن أن يحمل السّـلام للأهل والأحـباب، ويرجع إليهم بعفو الأمهات.
فدعواتهن تجوب كل الرّبوع التي ينتشر فيها أبناء الشّمال..الطيور تحمل العفو والسّلام، حتى الأفراخ الصغار، رسائلها في البريد القادم، والأعشاش هي صناديق البريد!....أحزان الشّمال مثل نغم الطمبور...أبناء النِّيل كلُّهم شعراء... ونساؤه مثل الخنساء تودّع أبناءها، وتبكي على أخيها... ربما يكون هذا الشّيخ شاعراً مثل ابن الرّومي، يبكي ابنه! وربمـا يكـون جريـراً يرثي زوجته. فالحزن يوقظ حسَّ الشَّاعر أكثر من كل الأفراح...دعــه يحزن، فالإبداع عندنا يكمن في الأحزان...لا...لا..لا بد لي من أن أنتشل هــذا الشيخ من حزنه وكآبته، إنني لا أطيق رؤية العذاب... دنوت منه وعرفته بنفسي ورفاقي، وطلبت منه أن يعرِّفنا بشخصه.
أغمض عينيه ومسح وجهه ببطء، وكأنه يحاول مسح تلك الأحزان...ثـم أخذ نفسـًا عميقـًا، ونظر إلينا نظرة غامضة، لو كنت دافنشي لخلدتها كتخليده لابتسامة الموناليزا. عيناه رغم ضيقهما وبعدهما تبتلعان الوجود بأكمله، وتحيلني إلى علامة استفهام تتسع تدريجيـًّا "كصفحة المـاء يلقى فيه بالحجر".
قال الشّيخ: إن ما حدث لي هذا اليوم؛ أمر عجيب!. أعذروني يا أبنائي!...فلقد كان قلبي مشغولاً وفكري حائراً....ما أحسست بوجودكم إلا
هذه اللحظة... بل ما أحسست
بوجودي بينكم
منذ أن تحرّك القطار.......
ثم صمت لحظة زادت من
تعلقنا به وشـوقنا لسـماع
قصّته، فصحـنا بصـوت
واحد: ماذا حدث؟.
أمسك الشّيخ بلحيته وقال
لقد نشأت في قرية الباسـا،
على ضفـاف النيل في أقصى الشّـمال... كنت مثل شتلة النخيل أنعم بالحياة الخصبة في تلك الضفاف الوارفة... يهـزّني صـوت السّاقيـة ويطربني نغم الطمبور....
وعندما بلغت العاشرة مـن عمري أرسلني والـدي إلى خلاوي "الغبش" لطب العلم، فمكثت أرعى نار القرآن، وأتعهدها بالحطب مع الحيران ثماني سنوات، ونار الشوق إلى أهلي يخفف من وقدها ذكر الله، حتى حفظـت القرآن وجوّدته، ودرست عدداً من كتب الفقه والحديث... عدت في طريقي إلي القرية، وكلّي شوق لرؤية صديقي محمود، والذي كنت كالظل لا أفارقه إلا بعد المغيب...فقد كنا ننام مع غروب الشمس ونصحو مع الفجر..مــا فارقته إلا ساعات النّوم... ولكنني لم أفارقه حقيقة فهو يشغل أحلامي...تركته يبكي ويتعلّق بي وأنا خلف أبي...يمسك بذيل الحمار، وهو يطلب من والده أن يتركه يذهب معي إلى خلاوي الغبش، ووالده يقول له:
يا ولدي محمود، باكر أسوقك إلى خلاوي الشّايقية...إنت وعلي ما بتحفظو حاجة! ولا بتتعلمو شي، دايرين تلعبوا يومكم كلّو..ومحمود يرتمي على الأرض وأمي تجمع خطواتي وتصرّها في ثوبها، بينما ثوب أبي يمتـص دموعي وهو ينهر الحمار.....
كان لابد أن نفترق...ولكنني كنت أتوقع أن أول من يستقبلني عند عودتي هو محمود، خاصة بعد أن سمعت أنه جاء قبل شهور قليلة بعد أن حفظ القرآن وجوّده... ولكن بمجرد وصولي إلى القرية علمت أن محموداً سافر قبل أيام إلي الصعيد، وتعقبت خطاه، إذ لم أطق البقاء في القرية التي ضاقت بي....خرجت أبحث عنه في كل مكان.. كنت كالليل أطارد النّهار بلا جدوى..إلى أن استقر بى المقام في مدينة كوستي، حيث عملت بالنجارة والأيـام تبعدني شيئاً فشيئاً عن محمود صديق طفولتي، والذي علمت بعد سنوات وسنوات أنّه ذهب إلى شرق السودان، واستقر في مدينة كسلا ....ولكن شاءت الأقدار ألا نلتقي أبداً.... فالتجارة يا أبنائي تشغل كل حياة الإنسان فهي شقـاء برغم ما فيها من ثراء!.
أطرق الشيخ لحظة... يده تداعب لحيته الكثيفة البيضاء ورعشة الحزن كالإعصار تهز تلك اليد التي طفت عروقها على سطحها بينما طفرت دمعة حرّى علي تلك اليد الظمأى فسادت لحظة من الصمت الكئيب لم يطرقها إلا ترحّم الشّيخ علي صديقه محمود......
قلت للشّيخ: ربّنا يجعل البركة في ذريته...نظر إلي الشّيخ وعينه تغرق في الدّمع، وقال أن محمود مات قبل عشر سنوات، ولكن الذي يبكيني الآن شيء غريب...كالحلم تمامـًا... شيء غريب عجيب.....
قبل مجيئكم إلي المحطة كنت وحدي في هذه العربة، أنظر من خلال هذه النّافذة إلى العمّال والمودعين والمسافرين...وإذا بي أصيح فجأة ...محمود..محمود !! لقد كان طفلاً في العاشرة من عمره يبكي وهو يودّع شخصـًا ما....إنه محمود يبكي لوداعي...صحت بأعلى صوتي:
محمود..محمود! فالتفت إلى...لا أدري كيف قفزت من القطار رغم شيخوختي..إنني لم أعد شيخًا في تلك اللحظة، بل صبيـًّا في العاشرة مثله تمامـًا...وجدت نفسي أعانقه بشدة وأنا أبكي بعنف وأصيح :
محمود!...محمود!! إنّه محمود! لن أسافر وحدي إلى خلاوي الغبش لا بد أن تسافر معي. مددت يدي باحثـًا عن ثوب أبي، لأمسح دموعي..وكأني شعرت بأن هناك يداً تبعده عنِّي..حسبته الفكي والده، فازددت تعلقـًا به، ولكن اليد جذبتني بقوّة، عندها شعرت بأن محمود قد جفّت دموعه وهو يحدِّق فيَّ، يتمتم بكلمات لم استبنها من فرط شوقي إليه.
لن أصدّق ما حدث...إنّها لحظة وداع قاسية عشت اللحظة فيها بكلّ أعماقي، صبيـًّا يافعًا مـا ترددت قط في أني هذا الشّيخ الذي أمامكم، إلا حينما امتدت يدي لتمسح دموعي بثوب أبي! فإذا بلحيتي توقظني وتردني إلي رشدي، فأفيق مذهولاً علي صوت الصّبي: من أنت أيّها العجوز؟..أبي أبي..أبي إنني لا أعرف هذا الرجل الكبير.....
إنّه صوته الذي لا يزال صداه يرن في أذني كل تلك السّنوات... صوته بالتأكيد...إنّه محمود..ولكن!! من أنـا؟! من أنا يا محمود؟
ألا تعرفني؟! لقد عشت أحمل ذكراك في خيالي ستين عـامـًا، وهـا أنت ماثل أمامي لم تغير فيك الأيام شيئـًا، غير ذلك القميص، الذي ارتوى بمـاء الفيضان، فكان في لون التّراب.. لون الأرض التي تمرّغت فيهـا ساعة وداعي!!!
فلماذا أنت جــامد الآن كجبل البركل؟ أنسيت أعز أصدقائك يا محمود؟ من أنـــا؟ ألا تعرفني حقـــًا؟....
التف الناس حولنا وسمعت أحدهم يقول: إن هذا الشيخ خرَّف! وآخر يقول إنه مجنون..وآخر.. وآخر... كنت أسمع أصواتهم خافتة بعيدة ولا أرى غير محمود!.
سألت نفسي هل أنا في يقظة أم في حلم؟ إنني لم أشاهد محمود في أحلامي منذ سنوات طوال... فهل عاد طيفه الآن أم أنني في يقظة وكل حياتي وأسفاري ولحيتي وتجارتي أحلام؟...من أنا ما دام محمود لا يعرفني؟ وبينما أنا كذلك إذا برجل يجذبني إليه ويسألني: هل أنت بخير يا عمّي؟ قلت في نفسي: ربما!!.سألني ثانية هل أنت مسافر في هذا القطار؟ قلت في نفسي..ربما سألني ثانية: هل أنت مسافر في هذا القطار؟ قلت وأنا أجمع أنفاسي: نعم... نعم مسافر يا ولدي خذني معك. قال: وإلى أين أنت مسافر؟ قلت إلى قرية الباسا، بينما خلاوي الغبش تملأ فمي...
انجلت الحقيقة فما عدت أشك في يقظتي...فالمحطة ماثلة أمامي بقطاراتها وأجراسها بصخبها وضوضائها...بعد أن كانت غائبة عنّي قبل لحظات!...والرجل ما زال يمسك بي وأنا متعب خائر القوى...
قال لي: أنا والد هذا الصّبي. ولقد كنت أتابعك كل هذه المدّة، وأنت تمسك بابني وتناديه باسمه وتبكي وتتمتم بكلمات جعلتني أرتاب كثيراً في أمرك! سألته والإعياء يمسك لساني أحقـًا هو محمود؟ قال نعم! قلت بصعوبة بالغة: ولم سميته محمود؟. قال بصوت يبدو كالسراب: إنه وُلد بعد وفـاة جده بشهرين، فآثرت أن أسميه علي اسمه......
قلت: فلان بن فلان بن فلان ود فلان؟!!! صـاح في أذني: عجيب أمرك أيها الشيخ! أنت تعرف أبي؟!.......
ثم صمت الشيخ لحظة وأطرق إلى الأرض التي يطويها القطار، وكأنه يخرقها بنظراته لينبش جثّة محمود التي تملأ تلك الأعماق.... ثم قال بعد مدّة...اللهم ارحم صديقي محمود....
امتزج دعـاء الشّيخ بصوت هــائل يقول: قلبي انقطع... قلبي انقطع... قلبي انقطع...صوت يدخل كالعاصفة الهوجـاء من النّافذة....علّه قلب الشّيخ الذي كان متعلقـًا بمحمود يطارد القطار لاهثــًا ليلحق بجسمه...لا!!...إنّهــا أنّات منتظمة رتيبة مثل ريـاح الصّحراء تطرق كصوت الدُّف في قلبي، فيرتعش جسمي لتلك الأنّات....إنّه قلب ينفطر....أي قلب هذا الذي يستغيث؟ قلب النّيل أم قلب النّخيل؟ قلب الحجارة أم قلب الشّيخ؟
امتد بصري من خلال نافذة القطار المتجه نحو الشمـال أبحث عن هذا القلب المفجوع....الأفق دم قاتم امتص حمرة الشمس... النيل شريان يتدفق...الغروب الحزين قادم... الكون يتهيب لحظات الغروب وكأن الشمس لن تشرق غداً… الكون حزين يودِّع أمــه الودود بعد أن ارتمى في أحضانهـا الدّافئـة طيلة ساعــات النّهـار…التفتُّ إلي الشّيخ قائلاً: أيها الشّيخ كفكف الدّمع فأنت لست وحدك تبكي للوداع ... ها هو الكون يبكي…
محطات القطار ليست وحدهـا التي تشهد أنّات الوداع... الكون محمَرّ العيون يهاجر معنا يبحث عن محمود!!!.
وأخيـــراً وجدت القلب الذي يستغيث…إنه قلب القطار…قطار كريمة..هو أيضـاً يبحث عن محمود وهو يبكي بصوت مسموع…قلبي انقطع…قلبي انقطع…قلبي انقطع… والنّيل ينوح مردداً رجع الصّدى… ويسبق القطار مسافـــراً نحو الشّمـــال ليلحق محمود!!......
شّاعر الكَبَابِيش
عبد الله أحمد علي إدريس
المحرر
عبد الله أحمد علي إدريس، الشّاعـر
الكباشي المولـود بقـرية الصّافـي
شـمال سـودري بولاية شـمال
كردفان، عـام 1965م، يعـد الآن
من أمـيز الأصـوات الشّعـرية الشّعبية، التي استطاعت أن تتواصل مع قضايا الإنسان السّوداني، والتعبير عن طموحـاته وهمومه. تغنى للطبيعة والجمال في شمال كردفان، ووصف روعة الحياة البدوية التي يعيشها أهله الكبابيش، فجاء بصور بديعة مـن النّظـم الشّعبي
المشحون بالموسيقى العذبة،
والمـعبّر عـن تفاصـيل
الحـراك الاجتماعي فـي
بوادي كردفان "الغَرَّة أُمْ خِيۤرَاً جُوّه وبَرَّه".
يقول في وصف الإبل:
ألْبِـلْ عِنْدَهـِن فِي كُل مُنَاسَبـة قِيمـة
فوۤقْهـن جُوۤخَة العِـز والعَزِم والشّيمة
الصَّدَف الصَّهل خيـۤلُو ورُجَالو صَمِيمَة
بِعَزْمنلـُو القُطَـابِي ويقَدِمَنلـُو وَلِيمَة
***
ألْبِلْ فَرْزَهِنْ مِنْ بَاقِي الرِّزِقْ مُو طُولْهِـنْ
الجَخْ والهِبَـة وقَطْـع المَسَافَات هُولْهـِنْ
قَبُـل مَا يِظْهَرنْ سُفُن البُحور واسْطُولْهِنْ
كَانُـوا حَجِيجْنا يمْتَطُوا للحِجاز زَهَمُولْهِنْ
***
كَــمْ كَاتْلاتْ عَزِيـزَاً ليـۤهُــو شَنِّي ورَنِّي
وكَـم زَارْعَات جَفَايَــاًَ مـَا وَرَاهُـو مَحَنِّي
أُمْ بَاعَــاً مَفَاسَـــحْ وفِي الشَّـدر بِتْحَنِّي
فِي الصّيفْ والخَرِيفْ حِسْ صُوتْ سِلاحَه يِغَنِّي
***
اتْعَقَبَـنْ صُقُـورَه عَلى المَحَاصْ والوَاقِـعْ
رَصَّاصْ جِيمْـهَا فِي المِقْـرِحْ كَأنُّو صَواقِعْ
عُـرْفَاً وَبـَرُو زَي تَبـَر النَّـدَى المِتْفَاقِـعْ
جَـا فُوقَــه الدَّرَتْ مِتْبَـرْقِعَابُـو بَرَاقِـعْ
***
جَاتْ مَارْقَه العَصُرْ مِنْ الوَعَرْ والهِيشْ
لابَسـه عِبَايَـة العُرفْ الوَبَر مُو رِيشْ
كِيرَه مِجَرْتِقُو الحِبِـر البِبِش فِي بَشِيشْ
يِلْويِهَـا ويْقِيفْ زَي ضَابِـطْ التَفَتِيشْ
***
مُتْحَكِّـم خَلاصْ فِيهَـا ولويبَها بِخَافـُو
يِقَالِـعْ زَامْلَـة الإنْقِيبْ مَحلْ مَا شَافـو
عَازْلْ البـَرِّي والفـَادِر مِخَلِّي خِلافُـو
مِنْ رَاسْ الفِقَر دَافَق الحَرُوتْ لا أكْتَافُو
***
يِمْصَعْ وينْشَبِحْ مَابِي التِّدِنْقِر وقَشُّـو
حَـرُوۤتْ دَمّ الدَّلَم فَاصِلْ قَفَاهُو ؤوَشُّو
ويـۤنْ مَايلْمَعْ البَـرِقْ البِسَرِّبْ رَشُّـو
يِصْرِجْ نَايْبُو والمُحْجَمْ يِبِشْ فِي بَشُّـو
***
ألْبِلْ فُوۤقْهِـنْ الكَرْنَة أمْ كُمَاجْ والعِـزَّة
والمَا ضَاقْ سَعَاهِنْ أصْلُو مَا ضَاقْ لَذَّة
فُوۤقْ الفَاقْ جَرِي الرَّبْدَة وعُوَامْة الوِزَّة
قِدَّامْهِـنْ عَقَـرْ فَارْس الطُبُـولـُو مْـرِزَّة
***
شَال سِحْـب الصَّعِيـدْ بَدْرِي ودَفَرْ مِتْحَيَّـنْ
دُوۤر أُمْ زُوۤرْ بِقُولْ البَلَدْ مَمْطُورَه والفَرْع لَيَّنْ
مُنشـاق البعيـد الشّوۤفـو مُـو مِتْبَيَّــنْ
لِىۤ الجَعَّـارَة قَاسِي ؤلِىۤ أمْ شَـرَارِيبْ هَيَّنْ
***
الغَنَّامِي قَالْ مَطَرْ الصَّعِيدْ مُو خْصُوصُو
يِلْفَحْ فُوۤقْ جَرَارِيـبُو وطَرَفْ حَاسُوسُو
بَـرَا وَطَّايَّـة النُّوۤقْ المِرَفِّـعْ رُوسُـو
مَا بِتْعَفَّسْ القَـشْ البِجِـضْ نَامُـوسُو
***
أمْسَتْ نَافْضَه حَجَّـارْ الحَـدَبْ نَفَضَـانْ
تَضْرَعْ فِي هَويدَاً ما إنْسَدَر لِىۤ ضَــانْ
مِقَافْيَّه العِدْ ؤنَافْـرَة الدُّوۤنْكِي والحِيضَانْ
نَاطْحَة الرُّوبْ نَدَاهُـو مْسَرِّبُـو الفَيَضَانْ
***
القَشْ البَرَا رِدْ الدُّرُعْ مَا فِيهُو أَيِّ حَـوَايِمْ
قَاسُـو الضَّارْعُو طُولْ الصَّي جَرِيدْ ؤقَوَايِمْ
جَقْلَـة الّلـىۤ القَـدَرْ مِتْعَمْعِمَابُـوعَمَايـمْ
فَاقَـرْ سِيـدَه بِىۤ صَحْرَا وهَبُوبْ ؤسَمَايمْ
إلى آخـر النّص الطـويل المنقول من كتاب "من خصـائص الشّعر الشعبي السّوداني" للأستاذ محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة، والذي سينشر ضمن منشورات جامعة السّودان المفتوحة، قريباً بإذن الله تعالى.
***
حصاد البُّحوث
قدّمت إدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية بجامعة السّودان المفتوحة المحاضرات التَّالية التي تنوي توفيرها مطبوعة إن شاء الله:
1- محاضرة التّراث الشّعبي السّوداني الشّفهي والمادِّي
أ. محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة.
2. محاضرة تنمية الجامعة وترقية أدائها.. الوسائل الإيضاحية.
البروفيسور عبد القادر محمود عبد الله.
أ. هشام الفكِّي الطيّب.
3. السّودان القديم الهويّة والإنجاز.
البروفيسور عبد القادر محمود عبد الله.
4. المشروع الشّامل لبناء القدرات والخدمات البحثية بجامعة السّودان المفتوحة.
د. بدر الدين طه عثمان .
5. حليۤل موسى، من تراث بني جرّار.
أ. محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة.
كما قامت بزيارة ميدانية للتوثيق والتّثقيف والتّنوير بالمناطق:
1. مضارب القريَّات بمحليَّة أم بدّة.
2. تجمع البزعة بمحلية أم بدّة.
3. الدّباسيين بالضّقالة بمحلية الحصاحيصا.
4. بقّاري الأحامدة بمحلية الحصاحيصا.
5. الشّكابة شاع الدّين بولاية الجزيرة.
6. الشّبارقة بولاية الجزيرة.
7. الحلفايا بولاية الخرطوم.
كما تحركت الإدارة في زيارة للتّواصل مع دار الوثائق القوميّة، وتمّ فيها التأسيس لعناصر التّعاون بين إدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية، وإدارة دار الوثائق القومية.
وامتد نشاط الإدارة إلى ولاية نهر النيل، لزيارة البجراوية للتوثيق وإقامة بعض المحاضرات بالتعاون مع جامعة شندي.
وأشرفت الإدارة علي اللقاء التفاكري بالعلماء والباحثين، للاستفادة من خبراتهم في برامج الجامعة ومشاريعها العلمية.
المحرر .
***
الاستاذ الجليل الفاتح ابو عاقلة ، سبحان الله تدور الايام وتعود وتغيب بنا الدينا واليوم نلتقي في موقع اخر ، تعددت مواهبكم ، بعد طول غياب نلتقي واليوم الجامع بيننا هو هذا الفضاء الافتراضي الواسع ..استاذ الفاتح ..هل يعني لك هذا الاسم شئيا او يذكر بشئ ما ...لك التحية والتقدير
ردحذف