الاثنين، 18 أكتوبر 2010

إصدارة التنوير والتثقيف 3 Enlightenment and education

التّنْويِر والتّثْقِيف
3
قسم التَّنْويِر والتثقيف
بإدارة البحوث والتّخطيط والتّنمية
جامعة السّودان المفتوحة.
التّنوير والتّثقيف
2
جامعة السّودان المفتوحة.
ردمد: 1858-5426
للاتصال: E-mail: tanweer@ous.edu.sd
موبايل: 0912383850
تليفون: 0120840812
أغسطس 2009
تصميم الغلاف: أ. هشام صلاح حسين
المُشْرف العام
البروفسير عبد القادر محمود عبد الله


رئيس التّحرير
أ. محمّد الفاتح يوسف أبو عاقلة


هيئة التّحرير
د. سامية بشير دفع الله.
المّصمم الفنِّي والمخرج
أ. هشام صلاح حسين
كلمة التّحرير
القارئ الكريم
هذا هو العدد الثالث من إصدارة التنوير والتثقيف، يأتي إليكم وجامعة السودان المفتوحة قد انتقلت إلى مقرها الجديد الأنيق الحفيِّ بالعلم والإشراق والإبداع.
وفي هذا الانتقال إلى المقر الأساسي الدائم، خير كثير لمضاء رسالة جامعة السودان المفتوحة ونفاذها ، وهي التي تسعى للجودة بكل طاقاتها، حتى تصبح منارة للعلم والمعرفة تشع بأنوارها لتشمل كل أرجاء السودان الحبيب.
ويتوافق المبنى الجديد مع كل متطلبات عصر الفضاء المعرفي المفتوح، لهذا توفر له قدر كبير من المقومات التي تعين على نشر المعرفة والعلم.
التهنئة موصولة بأمنيات التوفيق والسّداد لأسرة الجامعة.
رئيس التحرير


التّمساح
أ. محمّد الفاتح يوسف أبوعاقلة
التمساح حيوان نيلي، يعيش في الأنهار العذبة التي ترفد نهر النّيل في السّودان، وهو يبيض ويدفن بيضه على رمال الشّواطئ ليفقس عن صغار يشبهون " الورل" والضّب، وفي بعض مناطق السودان، يطلقون على "ورل" الماء "جنا التّمساح" ويسمى "البَرَنْتَا". وتدمع عينا التمساح عند الأكل لهذا أطلق النّاس مقولة: " دموع التّماسيح"، على الذي تدمع عيناه افتعالاً وتمثيلاً دون حزن حقيقي، بعد أن يكون قد ألحق الضرر بالآخرين. وهناك نوع من المرض يصيب الغدد الدّمعية ويؤدي إلى جعلها دائمة الدّموع.
وهو حيوان برمائي مفترس، وأنواعه تقارب المائتين وواحد وسبعين نوعـًا في العالم، وهو يعيش على أكل اللحوم ويفترس الإنسان، لهذا نجده في الثّقافة السّودانية رمزاً للقوّة والبطش والصّولة، ومن أسمائه:
- الِّلدِر، أبْ كَرِيۤق، العُشاري، الكَبْجَن، الدّابي.
وللتّمساح ظهر صلب قوي وسميك عليه"الكريۤق" وهي الطبقات السميكة المترادفة التي يتخللها طمي النيل وقد تنبت عليه الحشائش، وشاعر الشُّكْرية يوسف أب آحميد يخاطب شقيقه دريس أبْ آحميد قائلاً:
الفـَرعْ البِمُـوحْ فِي حَجْرَة أبْ زُلِّيۤقْ
مِنْ فُوۤق النِّمِـر تِحِت الأسَـدْ حِلِّيـقْ
فِي الوَسْطَى دَقَـر نَقْوة المَنَطَّع زِيـقْ
مِنّك ؤلِي إدِرْ مُوجَـة وبِشِيل إطْبِيـقْ
فيرد عليه دريس بقوله:
أنا عنـدي الحربة للدّقر المَنَطَّع زيـق
ؤعنْـدي الجُلَّة للـدر البشيـل إطبيق
عنـدي أب عشرة للأسد البحوم حلِّيق
سحبت أب نـَوَّة للنّمر البقولو إشفيق
وفي هذا المربوع إشارة إلى عدد من الأسلحة التّقليدية التي تمكن الإنسان من التّصدّي لهذا الحيوان المفترس ولقد ذكر الشّاعر منها:
1- الحَرْبَة. 2- أب عشرة وهي بندقية.
3- وأبْ نَوَّة وهو السّيف. 4- و"الجُلَّة" لصيد التّماسيح، وهي حربة من نوع خاص، مسننة وحادّة، وتربط على سلك سميك جداً، وفي آخر هذا السّلك خشبة من النّوع الرّخو "الطّرور"، تطفو على سطح الماء محددة مكان التّمساح، فيتابعها الصّياد ليتمكّن منه بعد أن ينهكه بالمطاردة.
التمساح وفي فمه فريسة
يزخر الشّعر السّوداني بالإشارات إلى هذا الحيوان الذي شغل النّاس كثيراً، وأسهم في ثراء المخيّلة الشّعبية السّودانية، فالأشعار والقصص والحكايات والأمثال والأحاجي والأغاني لا تخلو من التفاتات إلى التّمساح وحكاياته.
أبْ كَريۤـقْ فِي الّلجَجْ
سَــدَّر حَبَس الفِجَجْ
عَاشْميۤقْ حَبْـل الوَجَجْ
أنَا أخُويّ مُقْلامْ الحِجَج
وقصيدة حاج الماحي عن التّمساح شاهد على خطورة شأن هذا الحيوان وسطوته على ساكني ضفاف النّيل، فالتّمساح الذي أشار إليه في قصيدته، قد كان مثار قلق وتوتر شديد في الشّمالية آنذاك، فما كان من حاج الماحي بفطنته ومنهجه الدّاعي إلى محبة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الدّاعي إلى المحبة والتّواصل والتّواد بين النّاس، إلا وتوظيف هذا الحدث بجذب انتباه النّاس، ومشاركة همّهم من خلال نظمه الرقيق، ودعوته للصَّالحين من الأولياء، (رجالة البركل)، بالتّوجه بالدّعاء لله لصرف هذا البلاء عن العباد.
شي لله يا رْجَالْـة البَرْكَـل
السَّهرانَـة اللِّيل مَا بتَكْسَلْ
التُّمْسَاح تُمْسَاحَـا جَسَّــرْ
وأمْـرُو عليۤكُـم مَا بِتْعَسَّـرْ
...
فوصفُ التّمساحِ بالجسارة وصفٌ صحيح وموّفق لأن هذا الحيّوان يهاجم فرائسه بقوة وجسارة. بل يصطادها أحيانـًا وهي على شاطئ البحر "القيۤفة" ويستخدم في هذا ذيله الطّويل، الذي يضرب به الفريسة لتسقط داخل النّهر ليقوم بعد ذلك بافتراسها.
تُمْسـَاح الدَّمِيـرَة الضَّارِبْ اللَّيا
يِبْلَع جُبْ ؤجُبْ لخَصِيمُو جِـدْ لَيَّا
"الليّا"، هي المكان الذّي ينحني عنْده الوادي أو النهر، وهو من الأماكن التي يتوقع وجود التّمساح فيها، وتشبيه الفارس الذي يهزم ويدمّر أعداءه بالتّمساح، تشبيه ينم عن إدراك الذّهنية الشّعبية العميق لخطورته وقوّته.
يتحدّث أهل السّودان كثيراً، عن التّمساح ونجده في نسيج حكاياتهم وأمثالهم، وكرامات أوليائهم، كما ورد في قصّة "جلوك"، حوار الشّيخ دفع الله المصوبن، والذي اختطفه التّمساح من على شاطئ "أبوحراز" بلدة السّادة العركيين، أهل الصّلاح والطريق القادري، والمناقب الكثيرة. حيث استنجد الناس بالشّيخ دفع الله الذي تصدّى للتمساح وأنقذ منه حواره وتلميذه "جلوك"، ولازالت الذاكرة الشّعبية تردد هذا الموقف وتشير إليه. ويرد ذكر التمساح في ألعاب الصّبية، كلعبة شليل:
شِليۤلْ ويۤنْ رَاحْ خَتَفُو التُّمْسَاحْ
شِليـۤل ويۤنـُو خَتَفُـو الدُّودُو
***
والعجيب في الأمر، أنّ هذا الحيوان المفترس، تستخرج من غدده الدّهنية، مادّة تضاف إلى الكُمْبا، والمَحَلَب، والزنجبيل "الجنزبيل"، لتُنتج ما يسمّى بالطيب المربّع، وهو عطر من أطيب عطور أهل السّودان قديمـًا، ولتلك الغدد اسم سوداني خالص، وهو"الدِّرَب" وربما يكون اللفظ مشتّقاً من "الدِّراب"، وهو الموضع الذي يجعل فيه التمر "ليقِبَّ"، أو ربّما تكون بمعنى "الضّرى"، كما ورد في القاموس. ومما ذكره الشّيخ كمال الدّين الدميري في "حياة الحيوان الكبرى"، عن التّمساح قوله:
"التّمساح اسم مشترك بين الحيوان المعروف والرّجل الكذّاب، قال القزويني: وهذا الحيوان، على صورة الضّب، وهو من أعجب حيوان الماء، له فم واسع، وستون نابـًا في فكّه الأعلى، وأربعون في فكّه الأسفل، وبين كلّ نابين سن صغيرة مربّعة، ويدخل بعضها في بعض، عند الانطباق، وله لسان طويل، وظهر كظهر السّلحفاة، لا يعمل الحديد فيه، وله أربع أرجل وذنب طويل."
وأورد عنه:" أنه يغيب تحت الماء طوال فصل الشّتاء، ويعيش حوالي الستين سنة، ويُسمّى الطّائر الذي يلازمه وينظّف له فمه بالقطقاط، وذلك لأنه ليس له دبر يخرج به فضلاته".
وأشار إلى تحريم أكله، مستنداً على رأي محب الدّين الطّبري والرّافعي، بحجة أنّه يعدو بنابه، وأن أكله من الخبث.
وللتّمساح طريقة عنيفة ووحشيّة في التهام فرائسه، إذ بعد أن يمسك بها، يقوم بتطويحها في الهواء، ثمّ يضرب بها الأرض بقوةٍ، مرات ومرّات، حتّى تهرس كلّ العظام التي بداخلها، ثمّ يقوم بهزّها في الهواء، ليذروها فتتطاير منها العظام بعيداً، وبعد ذلك يقوم بالتهامها دفعة واحدة، وكثيراً ما يجد الصّيادون حلي النّساء وأدوات زينتهن، في بطون التّماسيح وكذلك السّاعات، ولوازم الرّجال.
يقول الشّاعر أحمد عبدالله البنّا "الفرجوني":
تُمْسَاح أدْبـَرَه الحَجَّر ورُودْ القِــيۤفْ
يَا نِمْـرْ الفرُوعْ فِي الغَابَة مَاكَ طرِيۤفْ
يَا الضُّلْ الضَّلِيلْ الفِي هَجِيرَة الصّيۤـفْ
للرَّايـْدَكْ مَحَنَّـة وللمِعَادِيـكْ سِيۤـفْ
يا شدر الهنا الشايـل الثمر عليــف
حَقَّ الشَّكْـرَة صُحْ عِيسَى البِتِم الكِيۤفْ
يؤسس الشّاعر صورة متخيلة لهذا الكائن البرمائي المفترس، الذّي اقتحم فضاء الثّقافة الشّعبية السّودانية، وتحوّر الآن ليصبح رمزاً للجشعين من النّاس، الذين يعتدون على الأموال ظلماً وعدواناً.
وفي المديح الذي قيل في الشّيخ العبيد ودبدر "ود ريّا":
يَا تُمْسَـاحْ الأرْبَعِينْ
يَا مكَدِّبْ نَايْبَكْ سَنِينْ
نـَــادِر ودْ بـَـدُرْ
فِي أمْ ضُبَّانْ سَاسَك مَتِينْ
التمساح من الحيوانات التي أمدت الثقافة السودانية بالكثير من الصور والرؤى والأفكار، وهذا قليل جداً مما يمكن الوقوف عنده من آثار هذا المدد الثقافي الثر.
وكثيرة هي الحكايات والقصص والأشعار التي نسجت من عوالم الحيوان وغرائبه، ووظفت في المجالات التربوية المختلفة.

شعر
رؤى و تصاوير
في البص
د. نور الهدى عصام الدين عثمان
(1)
مشاوير السنين تزفها البصات
و مشوار الحياة بصحبة الأصحاب
(2)
الوقت تستجيب فيه الشمس للظهيرة
و النسمة الوحيدة التي أتت
مريرة مريرة
اللَّفح يصفع الوجوه لا يبالي
البَّص جاء في تعاظم
و الموقف الصغير قد بدت جموعه غفيرة
و هرولت جموعه لتلحق الأماكن القليلة الأثيرة
فواحد يسارع الخطى
و آخر يحس جيبه ولا يبالي بالذين حوله
و ثالث يقول للجميلة التي أمامه
تعالي يا أميرة
و آخر عيونه قد هرولت أمامه لتقطع المسافة الطويلة
(3)
و صاح في جزالة ليعلن الرحيل
نظرت فيه كم ترى قد عاش هذا الآمر الصغير
فشكله يقول أنه قد فات من سنينه قليل
و نظرة من عينه تقول أنه مضى على ميلاده كثير
فأمه مسكينة مجهولة المصير
و الوالد الذي قضى قد عاش كل عمره فقير
و إخوة من حوله أظن جمعهم كبير
هل يذكر الطفولة !!؟
وهل لذلك الحديث من صدى على مطامح الرجولة!؟
محال أن تكون أذنه قد داعبتها قصة البطولة
ولا جبينه قد داعبته قبلة الحنان
لكنه في مهده
قد شوشت على فؤاده تجارب الكهولة
(4)
اللفح يخدش الوجوه في جرأة عنيفة
و الصمت قد بدا من حولنا يخنقنا بخفة
- إبليس في المرور– قالها مسافر بضحكة خفيفة
و جاوبته همهمات الراكبين
في بعضها تحس غائر الأنين
و نظرة لراكب قد هرولت تسابق السنين
و مرة تعود للوراء تخرق الماضي الحزين
عيونه تشوبها ملامح الكآبة الأليمة
عروقه تود لو تطير من حصار الجثة السقيمة  


القرية في أدب الطيِّب صالح (2-2)
بحث في رؤى الكاتب الإبداعية
أ‌. محمَّد عوض عبوش
في هذا المناخ الذي تجمعت فيه هذه التيارات والأجواء الفكرية كتب الطيب صالح أعماله القصصية والروائية. واتجه بكل طاقاته وملكاته الأدبية والإبداعية للكشف عن أصول الحياة السودانية وعن ثقافة الإنسان السوداني وجذورها الإنسانية والأخلاقية والروحية والفكرية بعمق في مجتمعه. والكشف عن أن هذا المجتمع له فلسفته في الحياة وله قيمه وتقاليده وأعرافه ومعتقداته ونظمه الاجتماعية والسياسية وهويته وتاريخه والتي يعتد بها جميعها. وأن هذه الأصول هي التي صاغت وكونت نسيج الحياة السودانية عبر التاريخ وحافظت على كيان المجتمع السوداني وتماسكه رغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها في العهود الاستعمارية. ومن هنا فلا مناص من التأكيد على هذه الأصول واستصحابها في عمليات بناء المجتمع الجديد بعد الاستقلال. ودون شك فإن الطيب صالح يرى أن من واجبه ككاتب يحمل في أعماقه هموم بلاده، أن ينبه أو يلفت النظر، إلى مناطق القوة والضعف في البناء التقليدي للمجتمع في كافة الأوجه حتى لا ينساق الناس وراء دعوى التحديث والتطور دون تدبر أو رؤيا نافذة ترى وراء الأشياء التي تبدو للعيان، من دون مصلحة المجتمع ودون أن يعد الأساس والأرضية السليمة للتحديث والذي يرى بأن لا مفر منه في الوقت نفسه الذي يعد فيه العدة لعمليات النهضة السياسية والاقتصادية، لأن التحديث الذي لا يأتي عبر واقع المجتمع وتجاربه وخيراته وقيمه وروح إنسانه، يكون مشوهاً لا أصل له وغريبًا عن المجتمع الذي يسعى إليه.
ونجد الطيب صالح يعبر عن بعد اهتمامه بأصول المجتمع وتراثه وتاريخه وحرصه على أن يأتي الجديد متسقًا مع واقع التجربة السودانية بقوله: "إنني كنت منذ صغري تشحذ خيالي حكايات الماضي". وقوله: "وأذهب إلى جدي فيحدثني عن الحياة قبل أربعين عاماً، قبل خمسين عاماً، بل ثمانين عاماً فيقوى إحساسي بالأمن". والإشارة هنا : "فيقوى إحساسي بالأمن"، ترمي إلى تلك العلاقة الأزلية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأن الحاضر والمستقبل لا يستقيمان إلا إذا استندا على دعائم من الماضي. فإذن الجد وأحاديث الماضي يعبران عن تلك العلاقة التي لا تنفصم بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهي العلاقة التي تحافظ على أصول المجتمع وكيانه وتقوي في نفس الإنسان السوداني الإحساس بالأمن. وهذه الأصول هي التي أحس بها الكاتب ولمس استمرارية وجودها حالما وطئت قدماه أرض قريته ومرتع صباه، فقد كانت لحظات مفعمة بالمشاعر والدفء الإنساني، عبر عنها الكاتب بصدق وشفافية أخاذة حين قال: "عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقيةً قائماً بينهم، فرضوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي. فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذلك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زماناً في بلاد تموت من البرد حيتانها".
هذا الدفء الذي أحس به العائد إلى بلده، بعد فترة غياب طويلة أمضاها في تلقي العلم في الخارج، يرمز به الكاتب إلى أصل من أصول الحياة السودانية، ويلمس وتراً من أوتار نسيجها الاجتماعي المتناغم، فهو يجسد الروح الجماعية والتلقائية التي يتعامل بها المجتمع التقليدي في القرية مع الأحداث التي تشهدها، ودون شك إن عودة ابن من أبنائها وهو يحمل درجة علمية رفيعة يمثِّل حدثاً كبيراً يخص به الجميع. وإن لهذا الدفء الإنساني بعده المضي في نفس هذا العائد إلى بلده وأرضه، وولد لديه شعوراً مضاعفاً بالانتماء وحماساً للعطاء، إذ نجده يقول: "أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر". فإذن هذا الأصل المتمثل في الروح الجماعية والذي جسده الكاتب بشكل مصادر الانتماء للأرض والوطن ودافعاً من دوافع العطاء له والنقاء فيه. يمثل هذه الرؤى الإبداعية عبر الطيب صالح عن الحياة في السودان وأصالتها وعراقتها. فالقرية هي الوحدة أو النواة الأولى للوطن المستقر، والتي انطلق منها الإنسان السوداني لترسيخ نظمه وأعرافه وتقاليده وتأسيس حضارته ومجتمعه المستقر. فهي من هذه الزاوية تمثل مستودع قيمه وأعرافه وتقاليده الأصيلة والتي عمل على بنائها من واقع تجربته ومعطيات بيئته وتنطوي على ثقافته وروحه. فالقرية بهذا المعنى هي التي اتخذها الطيّب صالح مكاناً لرواياته وقصصه، ومنها أخذ شخوصه وصاغ صوره وأوصافه وبث من خلالها رؤاه الإبداعية الغنية بالدلالات والمضامين. وهذا المنحى هو ما عناه الدكتور مختار عجوبة حين تحدث في كتابه "القصة الحديثة في السودان"، عن أعمال الطيب صالح، وقال: "إن كل قصص الطيب صالح تلعب القرية فيها دوراً أساسيًّا، وتتردد فيها فيضانات النيل، والنباتات والزرع والحصاد والإنسان والحيوان، وهو في كتاباته كأنما أراد أن يعرف بالسودان، أن يعرف بعراقة مجتمعه وأصالته"، وفي تقديرنا إن الطيب صالح قد ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ نجده يقف أيضا شاهداً على عصره، على اللحظة التاريخية للتحول في السودان، أي مرحلة الانتقال التدريجي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، ومن عهد الحكم الاستعماري إلى عهد الحكم الوطني، لم يقف شاهداً متفرجاً وإنما شاهداً منفعلاً مع الأحداث، وله رؤيته في ملابسات وإرهاصات هذا التحوّل والانتقال.
والطيب صالح يعتبر من ضمن روائيين كثيرين في العالم الثالث جعلوا من القرية مسرحاً لأحداث رواياتهم وأعمالهم الأدبية ولعلنا نجد تفسيرا لهذا المنحى في أنهم يعمدون إلى ذلك حينما تتجاذب بلادهم منعطفات التحول أو التطور، أو عندما تمر بها المحن والإخفاقات، أو عندما تأخذ القيم والتقاليد الأصيلة في كل التآكل أمام مد الحداثة، أو تجتاحها عواصف الدكتاتورية والظلم والاضطهاد. ففي مثل هذه الحالات تصبح القرية لا تمثل مكاناً بعينه، وإنما تمثل مرفقاً فكرياً، أو حالة فكرية، كما يذهب إلى ذلك كل من سامي وإنعام الجندي في مقدمه ترجمتهما لرواية الكاتب غابريل غارسيا ماركيز،(مائة عام العزلة)، إذ نجدهما يقولان عن قرية "ماكوندو" والتي أصبحت قاسماً مشتركاً في كل روايات ماركيز إنها تضرب في الواقع وتتجذر فيه، حتى لكل شخص ولكل بيت ولكل شجرة وكل حبة رمل بل تصبح صورة حية لإنسان البلد الذي يكتب عنه الكاتب، في همومه ونشاطاته بخاصة وخذلانه، مآسيه ومسراته، قهره وانتصاره، انحسار إرادته، وتصديقه لما يعوق إرادته، في الخطر على وجوده، متحدية لذلك الخطر". وللطيب صالح رأيه في إتباعه لهذا المنحى إذ نجده يقول: إن على الأديب أن يبدأ من عالمه الصغير.. وإذا نجح الأديب في مخاطبة عالمه الصغير، فأنه يكون بمثابة من نجح في مخاطبة العالم كله".
بهذه الخلفية ندخل عالم الطيب صالح الروائي، هذا العالم الزاخر بالرؤى والأفكار والدلالات والمضامين التي تنبض بالحياة، المنطوي على نفس مفعمة بروح العطاء ومتوثبة للانعتاق والبعث الثقافي، عالم يفيض بجمال اللغة وسحرها وفن الإبداع، غني بالصور المعبرة عن واقع المجتمع السوداني وعراقته، ومتطلع لتحديث هذا الواقع وإصلاحه بوعي وأناة، فمن هذا المنظور ندخل إلى هذا العالم الذي لا يزال تختبئ في داخله الكثير من الرؤى والأفكار، كما يختبئ اللؤلؤ والجواهر الثمينة داخل الأصداف. ولا غرابة فى ذلك، فأعمال شكسبير عبقري المسرح الإنجليزي، لا تزال تستخرج منها المعاني والأفكار حتى اليوم، رغم بعد الشقة بينه وبين هذا العصر.


شعر عامي
ها الوليـــد!
الشاعر جاد كريم محمد محمد أحمد أبوزيد "شندي" التراجمة – الغابة
قُولْ لِى هَا الوِليۤدْ أسْمعْ
ؤفُوۤقْ القَالُوۤ فِيكْ بَرْضِي يَمِينْ بِاللهِ مَا بَرْجَع
حَصَـلْ فِي يُـوۤمْ
قَرَع عِشْواوِي أوْ فَجْرَاوي وِكْتِيۤن الحَمَار يِطْلَعْ
سَقِيتْ البُوغَة بالَّلبَقَة ؤمَــرَّة قْرَانْ
كَمَان كَاشَنْتَ للإنْتَايَة فِي التِّيــنَانْ
حَلَبْ جَدْوَل ضَكَر وسْخَانْ
ؤنِحْنَ كَمَـــــان نَمِسكْ الشَّافِعْ الدَّلْعَانْ
مِنْ جَضْمَاتُو ؤنْشَدِّقْ ؤبِنْفَرِّقْ بِيۤن البَهَمْ
بِنْخُتُّو جُوَّه الكَرْ سَاعْة أُمَّاتُو ِبِتْعَلّقْ
ؤقُولْ لِى هَا الوِليۤدْ أسْمَعْ
أوْعَكْ أوْعَى تِتْصَرْبـَع
حَصَل تَرْبَلت فِي قَيَّالَة بِتْحَرِّقْ
حَصَل عَلَّقْ جَخَصْ بَرَّانِي أوْ جُوَّانِي
فِي الكَرَبْ المِعَضِضْ فِيهُ قرْمَدّي ؤبِيْطَقْطِقْ ؟
حَصَل كَدْكَدتْ دُوُنْ طِرّيۤقْ
حَصَل جَرْبَنْتَ عَرَّاقِيكَ بالدِّفِيۤقْ ؟
حَصَلْ بَقَّشْتْ واللا رِمِـدْ
ؤجابُو لَكْ مِنْ المُسَّــارْ
مَلِيۤتْ عِينِيۤكْ بِقَتْ تَدْفِقْ
حَصَل مِنّ الحَفِيرْ كَرَّعْ ؟
ؤصَفِّيۤتْ مُويْتُو مِن دَغَلُوبَة
واتْوَتَحَـت قُـتَّ شبَـَعْ
رَجَعْ شَبْعَانْ وِكِتْ تَرَّعْ
ؤقًول لِى هَا الوِلِيدْ أسْمَعْ
شِنُو المِعْرِضْ.. شِنُو التِّنْقِيرْ ؟
شِنُو الإقْنِينْ... شِنُو اللاوِيۤقْ
شِنُو القُّشُّق .. شِنُو الكَاوِيۤقْ
تَعَرْفَ السَّندقيۤقْ آولِيۤدْ؟ شِنُو العَاشْمِيۤقْ
شِنُو الهَمْبَك هَوَا مِسيۤرِيِقْ
وأتْحَدَّاكْ بِتَعَرِفْ خُلَّةَ المَاريۤقْ
شِنُو النَّعْسَانْ شِنُو الّلقْلُوقْ
شِنِي المَاسْدِيۤرَة والفَاشُوقْ ؟
شِنُو القُلُّقْ ... شِنُو البَرْدَانْ
شِنُو المَاكُوكْ شِنُو الكَمْتَر شِنُو البَدْقُوقْ
شِنُو الرَّحَل التّفرغْ عِيۤنُو للمَارُوۤق
ؤقولْ لِى هَا الوِليۤدْ أسْمَعْ
تَعَرْف الكنْدَرَة أُمْ غُوشَـة ؟
تَعَرْف الكِتْرَة بِى عرُوشَة
شِنُو العَمَيُوقْ شِنُو التُّوۤرِيۤقْ
شِنُو الحُمْبُك شِنُو الحُمّيۤضْ شِنُو اللُّصيۤقْ ؟
ؤقُولْ لِى هَا الوِليۤدْ أسْمَــعْ
حَصَل صَنْقَرَت فُوۤقْ مُشْرَعْ
ؤمَا لِقِيتْ مَعَدَى بِى غَادِي والرَّوَّاسِي اتْمَنَّع
ؤلفِّيۤتْ الهِّــدُومْ فِي الرَّاسْ
نَزَلْتَ طِمِيّة مِنْ القِيۤفَة ﭽُبْ تَبْلَعْ
ؤقًولْ لِى هَا الوِلِيۤد أسْمَـعْ
تَعَرْف الكَـجْ واللالْويۤـبْ؟
حَصَلْ شُفْتّ الرّوَا اتْقَطَّع شِنُو الجَاقُوسْ
شِنِي الحَيَّاصَة والصَارِي... شِنُو البَاطُوسْ
شِنُو الفَافْرُوج شِنُوالمُعْلاق شِنُو الشَّاشَّـاق
حَصَل قَيَّلَتَ فِي رَقْـرَاقْ
فِي السَّلَم المَطَارْقُو رُقَاقْ
شِني الفَرْوَة.. وشِنِي المُخْلا
شِنِي المَلالَـة والمُطَّالَة
شِنِي العِدْلَة...شِنِي الفَقْلَة
شِنُو البَرَبنْدِي والخَنَّاقْ
شِني الوَشَرَة... شِنِي الوَعَرَة
شِني الدَّبَرة... شِنِي الشَّعتَة... شِنِي النَّذْرَة ؟
شِنِي النَّتْرَة شِنِي الطَّرْفَة وشِنِي الصَّرْفَة
شِنِي الهَكْعَة وشِنِي الهَنْعَة
شِنِي العَرْجَا وشِنِي أمْ نُقْنَاقْ
ؤقُولْ لِى هَا الوِليۤدْ أسْمَعْ أخِيۤرْ مِنْ هَا الحَدِيثْ تَقْنَعْ
شِنُو الوِيۤكَابْ شِنُو الرُّﭽََّابْ
شِنُو الغَوَّاصْ شِنُو الضَرَّابْ
حَصَلْ شَقَّقْتَ مَرَّة سَرَابْ
شِنِي النَّذْرَة وسِهيۤتْ غَرَزَتْ
شِنِي العَزَّالَة والوَقَّالَة
شِنُو الأبْرَق شِنُو اللَّبَّابْ
تَعَرْفْ اللِّبْـدَة والضَّنَّـابْ
حَصَلْ شُفْتَ المُشَاطْ بالسَّلَّة
ؤشُفْتَ سَمَاحْتُو جَايِبْ بِالمَتَاقِيلْ تَلَّة
أخَدْتَ التَّبَّة واشّبَلتَ قُتْ مَا دِلا
والعَنَجَاوي جُوَّه سَراتك اتْدَلَّى
بَدُورْ أورِيكْ هَدِي الحِلَّة
ؤقُولْ لِى هَا الوِليۤدْ أسْمَع ؤحَاوِل مَرّه تتشدَّع
حَصَلْ زَوَّفْتَلَكْ شَتْلَـة
حَصَل كَرَّجْتَ شِيۤلَة زُوۤلْ
واتْخَازَلْتَ مِنْ حُوۤضَاً كَبِيرْ ؤصَنَجْ
حَصَل دَقُّوكَ فَلاغَة وِكَتِيۤنْ التَسّوِّي عَوَجْ
وأكَلْتَهَا سَاهِي فِي اللّبَّادْ ؤقَالُوُا لِيۤكَ أمَّا خَمَجْ !
ؤقُولْ لِى هَا الوِلِيۤدْ اسْمَعْ!
حَصَل جَامَلْتَ فِي المَعْرُوضْ
وأكَلْ مُطَّالَة سَاهِي قَرَوضْ
لَحَمْ مَرْدُومْ تَمُرْ مَرْدُومْ
حَصَلْ جُوۤعَرْتَ واللا خِنِقْ
لامِنْ جَاتَك أُمْ دَلْدُومْ
حَصَل جَرَّبْتَ فَكَّة رِيِقْ قُبَّالْ الشَّمِسْ تَشْرِقْ
حَصَل سَوُّولَك الشَّلَهُوۤبْ مِنَ المَحْلُوبْ
حَصَلْ سَاهَرْبَكْ المَرْقُوۤتْ وأبُوقْرِيۤفَة
حَصَل صَبْلَجَتَ فِي القِيۤفَة
حَصَل قَفَّلْ بالعَبَسْ كِمْلِيبة
حَصَلْ شُفْتَ السِّهِيۤتْ البِىۤ التَّلاتَة حَلِيبَة
حَلَبْ عَتْمَة وشِرِبْتَ شخِيبَة ؟
حَصَلْ فِي يُوۤمْ مَليۤتْ لَكْ بُلْ واللا شِرِبْ شَرَابْ الغُلْ
واتْمَسّحْتَ بِى مَجْمُوعْ أوْ بَيَّتَ فِي قَاطُوعْ ؟
أو ضُقْتَ الدَّبَسْ فِي الرَّاسْ أوْ كَبَّر تَبَسْ بي الفَاسْ
بِتْعَرْف التَّغَر وكْتِيۤنْ يِبْدَا فِيهُ يَبَاسْ ؟
حَصَلْ سَاهَـرْتَ بِى الكَبَّـاسْ ؟
بِتْعَرْف السِّعِن والقِرْبَة بِى وكَّايَة
شُوفْ نُقَّاعَة زَي أمْ بُور ؤفِيهُ تَرَايَة
تَعَرْفْ أُمْ تَكَشُو وأمْ بَارِدْ ؟ تَعَرْف الشُّولْ والفَارِدْ
والسِوِّيۤد أكَلْتُو مُلاحْ تَعَرْفْ القُبْسَة والبَيَّاحْ
لِعِبْ شَادِيۤت حِدا الحِيۤشَانْ ؤكُنْتَ صَغِير مَسَكْتَ أضَانْ
وِصِلْتَ المِيسْ وكتْ فَرْحَانْ
لِعِب قَادُوسْ ؤيُومْ قَاسَوكْ ؤمِينْ قَاسَا
واللا الرِّمَّة حَرَّاسَـــــة
لِعِبْتَ كَرَع كَرَع النَّو ورَا الغَابَة
لِعِبْتَ الطَّابْ ؤشِلْتَ الوَاشْ وفلاغة وضَبِح طَابَة
لِعِبْتَ الوَرْ ؤكُوۤرَكْتَ وكَسَرْتَ الجَرْ ؤحَرَّتْ حَرْ ؟
لِعِبْتَ شِبِيۤرْ شِبِيۤر يُوۤمْ شَدْ
ؤقَامْ بِى جَمَاعْتُو طَايِرْ فَرْ
شِنُو النَّاطُور شِنُو المُتْرَارْ
حَصَل ضُقْتَ القَلِيعْ كِيۤفْ حَارْ
حَصَل شَاقَقْتْ سَدَّارِي واتْضَرَعْتَ فِي الغَدَّارْ
لِعِبْتَ الكَاسْ وأدُّوكْ هُوبَة نُصّ الرَّاسْ
حَصَلْ حَشِّيۤتْ لَوِيَة لُوبَا سَاعْة صَنَّة دُنْيَا هَجِيرْ
حَصَلْ غَزّيۤتْ مَنَاجْلَكْ دِيۤلْ فِي تُمْسَاحِيَّة خَاتْيَة المِيۤلْ
حَصَلْ عَلَّبْتَ نَارْ فِي فِجِيۤرْ
حَصَلْ كَوَّعْتَ يُوۤم فِي حِجِيۤر ؟
تَعَرْف الدُّكَرِي المَا انْخَتَ يُوۤمْ فِي جَفِيرْ
حَصَلْ آ ولِيــۤـدْ ؟
فِي التَّكُويَة جِبْتَ صُرَارْ ؤجِبْتَ مَسِيرَة مِنْ التُّوۤبْ
عَجَنْتَهَا فِيهَا بِى طَنُّوبْ
شِنِي الدَّرَّة وشِنُو المَحَوِيۤبْ شِنِي الدَّانْقَا وشِنُو الدَّانُوۤبْ
شِنِي السَّحَارَة والدّوَنِيبْ
حَصَلْ حَجُّوكْ حَصَلْ لُولُوكْ
حَصَلْ بِى غْرَارَة يُوۤمْ غَتُّوۤكْ
حَصَل آوليۤدْ رِكِبْتَ ألْبِلْ
شِبِعْ حَميضْ صِبِحْ تَرْيَانْ ؤفِي شَمْسْ الله مِتّنْبِلْ ؟
حَصَلْ خَرَتُوكَ بِى أمْ فِرْتِيتَة جِيتْ فَاضِي
مَشِيۤتْ كَابَسْتَلَكْ وَرَتَابْ
ؤيُوۤمْ عِرْفُوۤكْ عَشَاكْ كَانْ طَي ؤمِدَّنْبِلْ ؟
حَصَلْ شَقَّتْ كُرَاعْكْ سَارَة فِي الحَجْرَة ؟
حَصَلْ شُفْتَ العَرُوسْ مِتْضَارْيَة فِي الكُجْرَة
حَصَلْ فِي يُوۤمْ سِمِعْتَ الوَالْدَة بِتْبَنّنْ
ؤتَطْحَنْ فِي الدَّرِيشْ مِنْ تَانِي ؤتْفَنِّنْ
شِنُو القُرْقَابْ شِنُو الحَتَّل شِنُو العَنَّبَابْ
شِنُو الغَلَق البِيْفَتَحْ بِىۤ كَدِيس ؤكْلابْ
شِنُو المِشِّقْ شِنُو البِكّكْ تَعَرْفَ الوِيۤنْ واللا القَاوْ
شِنُو الَّلرَصْ البِجُر غِيۤرُو تَعَرْف الكَاو
شنو الاسْنَاج شنو الأرْقُو شنو الرَّتّاج
حَصَل شُفْتَ الرَّضِيَّة تَخُشْ
تَهِزْ سِعْنَاً مَلانْ بِالرُوۤبْ ؤمَرَّة تَرُشْ
مَعَلَّقْ فِي كَشَمْبِيرْ مِنْ حَطَبْ مَقْلُوبْ
حَصَلْ قَالُوۤلكْ إنُّو الكُورْ بِجِيب القُوبْ
تَعَرفْ الفَرْيَة والسِّمْبِيسَة والنّبِيتْ
حَصَل طَقُّوكْ بِالنَّبُّوتْ وِكْتِيۤنْ التَّقُولَه أبِيۤتْ
حَصَلْ قَيَّلْتَ فِي صَنَّانَة تَسْمَعْ صَنْ
تعرف أمْ صَنْ
تَعَالْ نُورِيكْ عَكَاكِيزَنَا وأسَامِيهَا:
أبْ قَرْجَة ؤسَجَم الأُمْ واللاقُوۤنا وأبْ حَنَفَة
ؤكَمَان فِكُّو تَسْمَع كَو وكْتِيۤنْ الحَدِيثْ لاكُو
حَصَلْ شَاهَدْ بَنَات الحِلَّة سَاعَة يِمْشَنْ الوَاقُودْ
ؤتَلْقَى السَّمْحَة تِتْوَقَّى وضَمِيرَه يقُودْ
حَصَل نَادُوۤكْ ؤشَيَّلتَ حَصَلْ شَاهَدْتَها بتَضْفُر ؤبِتَّبِّبْ
تَقِلَبْ النَّخَرة والحَنْقُوقَة ؤتْعَقِّبْ
تَعَرْفْ المُوۤص تَعَرْفْ البُوصْ والزُّمْبَارة واللانْدُوۤبْ
تَعَرْف الشَّلْخَة مَا شَالْ اللَّبَنْ يَا دُوۤبْ
حَصَلْ رَضُّوكْ بَعَدْ قَلَسُوكْ ؟
حَصَل حَجُّـوكْ ؤقالُوا ليۤكَ:
دِي الضَّبَحُوهَا دِي السَّلَخُوۤها
دِي الأكَلُوهَا دِي القَاوَالَة والوَرَّاد وَرَدْ مَا جَا
شِنُو الكُرَّادْ واللا أكَلْتَ يُوۤمْ كَدَّادْ
حَصَل صَارَعْتَ قُمْتَ حَكَلْتَ واللا رَمُوۤكْ
حَصَلْ سَاسَقْتَ بِالدّيۤدَابْ أوْعَاكْ مِنُّو بَسْ بِاللّيۤلْ
بِلِمْ الهَـامْ وأبْ دَفَّانْ ؤمَاهَو عَدِيـلْ
حَصَل نَقّبْتَ ضُقْل الشُّوۤكَة نُصّ اللّيۤلْ
حَصَلْ طَعَّمْتَ لَكْ جَبَّادَة بِى صَارْقيۤلْ
حَصَل آوْلِيۤدْ مَشِيۤت بالغَلَّة للضِّيۤفْ النَّزَلْ فِي الحِلَّة
ؤشِلْ شَاي الصَّبَاحْ "بَاجَقْلِي" بِىۤ البَرَّادْ
سَمَاحْتُو مَلانْ ؤكَانْ يِغْلِي
حَصَلْ فِي يُوۤم سِمِعْ حَبُّوۤبَة بِتْبَنِّنْ تَغِنِي عَلِى:
شَاهِي عَشَرَاتْ رَمَانِي ؤبِىۤ لَبَنْ كَرُّوتْ
شَاهِي عَشَرَات رَمَانِي والبِضُوقُو بِمُوتْ
شَاهِي عَشَرَاتْ رَمَانِي بِضَوي في الكُبَّاي
شَاهِي عَشَرَاتْ رَمَانِي ؤفِي كَبَابِي الشَّاي
شَاهِي عَشَرَاتْ رَمَانِي السُّكَّر أبْ لُوۤنِيۤنْ
شَاهِي عَشَرَاتْ رَمَانِي حَلاتُو بِيۤنْ زُوليۤنْ
شَاهِي عَشَرَاتْ رَمَانِي ؤفِي كَبَابِي الصِّينْ
حَصَلْ كُوۤرَكَتَ للمَطَرَة عَشَاكْ مُطَّالَة
فِي السَّيَالَة والوَعَرَة ؟
حَصَلْ بَرْبَحْتَ سَلَمِيَّة ؤخُوسْتَكْ سَمْحَة لِيۤهَا شَّرَا ؟
حَصَلْ حَللَّتْ يُوۤمْ تَقَرَة بِلا حِرْجِيۤمْ مِنْ النَّقَرَة
تَعَرْف الانْسكَاكْ آولِيۤدْ بِكُونْ بِى وِيۤنْ
تعرف التّبْ والمُسْلَب تعرف الهيـن
شني القِسّيۤبة والتُّرُّوبَة شني الحسكة وشني التَّنَكة
شِنِي الفِرَّة... وشني الفَّرة ؟ شني كتابة وشني الطُرَّة ؟
شني الصُّرّة وشني الصَّرّة
حصل خوّفت حُمْرة عِيۤن.. حصل قَلْفَطْتَ مَرَّة دَحِين ؟
شِنِي الجَّرَّة شِني الكَبْرة شِنِي الكِرَّة
شنو المُحْجَان شنو العِلِّيف شنو محجِّر مشارع القيۤف ؟
حَصَل صَعَّط سَمِن كرِّيفْ
حَصَل قَطْرَنْتَ للحَنْضَلْ مِنْ المُرْكَابْ
حَصَلْ ودَّرْ شَرَابْ البُوغَة بِىۤ الهُرَّابْ ؟
حَصَل آولِيۤدْ فِي مَرَّه املّيۤتْ بِىۤ عَصِيدَة للطَّقْطَاقْ
حَصَلْ فَفْرَجَتَ لِىۤ النَرْمَط حَصَلْ زَمْبرتَ بالمَطَّاقْ
حَصَلْ شِلْتَ الوَقَار فَرَّادِي حَصَل كَضَّبتْ يُوۤمْ جَاكْ فَاقْ
شني الفُوَّامة والبُرَّامَة والنّجامة والكجّامة والمدقاق ؟
شنو اب عَرَّاق شنو السطيح تعرف الشيح واب جلّيۤح ؟
تعرف المفحضة أم سيۤرين حصل شفت المَرِيد ؤمتين ؟
حَصَلْ جَرّيتْ لُبَانْ
واللا بْتَعْرِفْ المِرْتِينْ والمِرْسِينْ
حَصَل سَاهَرْتَ بالكِتْكِيۤتْ حَصَل لبُّولَك البِركِيتْ
حَصَل فِي مَرّه اتْنَهّفَتَ واتْنَخَّجَت وانْدَقِيۤتْ ؟
حَصَلْ فِي كُدُّكَة اتْدَفّيۤتْ
حَصَلْ سِيۤتْ لَكْ سَواقِي إبْلِيسْ لامِنْ صُوۤتْ بُكَاهَا يِعِيطْ
حَصَلْ غَدُّوك بِىۤ سَبَرُوقْ
ؤحَصَل قَالُولك إنُّو الكِيۤلْ عُقُبْ للكِيۤلْ بِجِيْبلُو فْرُوقْ
حَصَل سُوۤجَرْتَلْكْ يُوۤم كُورْ واللا حَوِيَّة بى قِدْ توۤر
حَصَلْ قِدْتَ أمْ صِوۤيتْ للنُّورْ
واللا لِبِس شِقَيَّانة واللا حَفَرت للمَطْمُور
حَصَل يُوۤمْ رَسّلّوكْ لِىۤ صُورْ واللا أكلْ مُلاحْ بَرْبُور
حَصَلْ آوْلِيۤد حَوِيۤت الحًوۤر واللا دَخَلْتَ ضَهَر التًّوۤرْ ؟
ؤقُولْ لِىۤ هَا الوِليۤد أسْمَعْ
حَصَل فِي يُوۤمْ شِرِبْتَ مِحَايَة مِنْ الشِّيۤخْ
واتْبَخَرّتَ وإنْتَ نَصِيحْ
حَصَلْ سِيۤتْلَكْ عَمَارة دَحِينْ ؟
قَرِيۤتْ... تَمْتَم أبْ ؤجَزَمْ
ؤحَالَكْ يُوۤتْ لامِن كَمَّلْ الشَّلْتُوتْ
وسِط حِيۤرانْ وإنْتَ تْجُوطْ
سَبِتْ سَبُّوتْ...أحَدْ نَبُّوتْ
حِفِظْ عَمَّ ... ؤقُمْ سَمَّعْ
ؤقُولْ لِىۤ هَا الوِلِيۤدْ أسْمَعْ مَا بِنْقُولْ كَلامْ شُفَّعْ
نِحْنَ عُمَدْ عَدِيلْ فِي كَلامْنَا نِتْرَبَّعْ
وأخِيۤرْ تَقْنَعْ
حَدِيثِي مَعَاكْ كَأنُّو أضَانَك آبْتَسْمَعْ
لأنِّي عَليۤك مِتْمَكِّكْ وأنَا والله جَدْ سُودَانِي
أيْ واللهِ مَا مْشَكِّكْ
ؤنِحْنَ أولادْ تَرَاجْمَة نْجَاضْ ؤمَاكَ لَدَانَا
وأحْسَنْ تِنْقَرِعْ آوْلِيدْ ؤصَدْرَكْ لِيۤهُو مَا تْفَكِّكْ
***
جَادْ كَرِيم مُحَمَّد مُحمّد أحْمْد أبُوزيد
التّرَاجمة – الغابة
من تراثنا: الكبوتة والطبق والبرش وسرير القنا
المحرر
النَّاطُورْ والمُرْكَابْ والدّونِيبْ والمُطَّالَة، وغيرها من المفردات التُّراثِية التي تشدُّ الناس إليها بخيوط من الشجن العميق، من بعض المفردات التي ضمنها شاعرنا جاد كريم محمد محمد نصَّه الشِّعْري هذا، والذي شارك به على شرف محاضرة عن تراث الجعليين بنادي المكفوفين بشندي، والتي أشرف عليها قسم التنوير والتثقيف بإدارة البحوث والتخطيط والتنمية، بجامعة السودان المفتوحة.


أيهما أقدم، الحضارة المصرية أم السودانية؟


د. سامية بشير دفع الله
العنوان أعلاه يشير للحضارتين المصرية الفرعونية ومعاصرتها السودانية، (ازدهرت الأولى خلال الفترة 3000 – 300 ق.م.). إن واحداً من الأسباب التي دفعتني للكتابة في هذا الموضوع هو ما لحظته من ضعف إلمام بعض المثقفين بحقائق ومعلومات عامة لا تقبل الجدل. شهدت جدلاً في قاعات مرموقة في مدينة الخرطوم دار حول السؤال، " أيهما أقدم الحضارة المصرية أم السودانية؟ ". جادل المثقف أنه سمع من عالم آثار سويسري أن الحضارة السودانية أقدم وأعظم من المصرية. وقال آخر إن المصريين تعلموا أسس الحضارة من السودانيين. وحدثني البروفسير عبد القادر محمود عبد الله أنه سمع سودانياً من حملة الدكتوراه في حوار له بالتلفزيون يقول فيه: إن أهرامات البجراوية أقدم من أهرامات الجيزة؛ حجته التي اعتمد عليها ونصاً هي: " طبيعة الأشياء أنها يبدأ صغيرة" يعني أنه من المنطق أن الأشياء تبدأ صغيرة ثم تكبر، ما معناه، أن أهرامات البجراوية أصغر حجماً من أهرامات الجيزة فهي إذن الأقدم.".! كما أردف بأن الحضارة بدأت من الجنوب (يعني السودان)، إلى الشمال. قلت في نفسي إذا كان هذا هو حال بعض الأكاديميين فكيف يكون حال من هم دونهم من المثقفين؟.
منذ ذلك الوقت والكاتبة تفكر في نشر مقال تنويري مبسَّط عن مكانة الحضارة السودانية القديمة بالنسبة للحضارة المصرية الفرعونية. في الوقت ذاته حاولت الكاتبة أن تتعرف على الأسباب التي جعلت بعض السودانيين يتفاخرون بأنهم أصحاب الحضارة الأصليين وأن المصريين تعلموا منهم. هل هو مجرد إدّعاء أم أن وراءه بعض المبررات؟ .
في البداية هناك انتقاد مهم يوجه للسؤال نفسه وهو طريقة طرحه. إن مثل هذا السؤال يمكن قبوله والإجابة عليه في حال أن تكون الحضارات موضع السؤال بينها فروق زمنية كبيرة- أي غير معاصرة. كمقارنة المرء بين الحضارات الفرعونية، الهلنستية، الرومانية، الإسلامية الخ، فهذه تتابعت حسب الترتيب المذكور. أما المعاصرة، فإن الاهتمام سينصب على نقطة محددة وهي أيهما ظهرت أولاً؟.
إن الطريقة العلمية السليمة للإجابة على هذا السؤال(في العنوان)، تقتضي شرح لفظة حضارة وتحليلها . إن مفهوم الحضارة الذي يقصده طارحو هذا السؤال هو: تلك المرحلة من التطور التي دخل فيها الإنسان بعد خروجه من الحياة البدائية؛ المرحلة التي توصل خلالها لاكتشاف أربعة اكتشافات مهمة هي: إيقاد النار، صنع الأواني الفخارية، الزراعة، واستئناس الحيوان. يضاف لهذه العناصر المادية عناصر غير مادية مثل التنظيم الاجتماعي، (الأسرة، الحكومة، التنظيمات الكهنوتية الخ)، والكتابة والتَّدوين. هذه الاكتشافات تعتبر العتبة الأولى في درج الحضارة الذي ظل الإنسان يصعده بالتدريج.
إنجازات الإنسان المصري
إذا اخترنا مصر كنموذج لتدرج الإنسان في سلم الحضارة نجد الإنسان المصري بحلول الألف الثالثة قبل الميلاد قد أتقن بعض الصناعات الحجرية مستخدماً أدوات قطع شبه بدائية مصنوعة من النحاس، ثم صنعها من البرونز في مرحلة لاحقة، ثم خاض غمار البناء بالحجر، وبرع بخاصة في هذا المجال وحقق إنجازات كبرى في زمن الأسرتين الثالثة والرابعة اللتين شهدتا بناء الأهرامات في الجيزة ودهشور وسقارة. وصاحب ذلك بناء العديد من المعابد الضخمة من الحجر أيضاً. وشهدت الفترة نفسها ميلاد فن النحت على الجدر وفن صناعة ونحت التماثيل من أقسى أنواع الحجارة ، وفن الرسم الملون والزخرفة. أما التنظيمات الاجتماعية فاستمرت تتطور. وتبلور نظام الحكم وأخذ شكله الملكي الأوتوقراطي الوراثي (في الغالب)، الذي صبغ الحضارة المصرية الفرعونية إلى نهاية مراحلها . وتعاقبت العواصم الملكية في أبيدوس و ممفيس واللشت وطيبة، وتل العمارنة وغيرها، وعثر على آثارها المتمثلة في خرابات وأساسات من الطين اللبن. تطورت كذلك الكتابة وخطوطها وازدهر التدوين في شتى ضروب الأدب والعلوم والقوانين والتشريعات.
قبل أن ننتقل لوصف إنجازات إنسان السودان خلال الفترة نفسها، نلفت انتباه القارئ إلى حقيقة مهمة ستتضح له إذا أمعن النظر في الفقرتين السابقتين؛ ألا وهي أن الحضارة إنما هي مجموعة عناصر متشابكة، بعضها مادية وأخرى ذات طبيعة اجتماعية، فكرية أو روحية. وتتفاوت المجتمعات في القدر الذي تحققه من مجمل العناصر المكونة للحضارة. ورب مجتمع بسيط ينجح في تحقيق إنجاز معين لم يكن قد ظهر ضمن إنجازات مجتمع آخر شهد له بالسبق في مجالات أخرى.
إنجازات الإنسان السوداني
لعله من المناسب أن نطرح هنا السؤال :هل حقق الإنسان السوداني الإنجازات نفسها التي حققها الإنسان المصري والتي أوجزناها أعلاه؟ الإجابة نعم، حقق معظمها، ولكن لم يكن سابقاً بل لاحقاً للإنسان المصري. يستثنى من ذلك صناعة الفخار فهي إنجاز تحقق في السودان في وقت مبكر جداً، ربما في الألف الثامنة أو التاسعة قبل الميلاد. وهنا يمكن أن نتحدث عن سبق سوداني. يستثنى أيضاً البناء بالطوب المحروق الذي استعمله إنسان كرمة بتوسع لم يسبق له مثيل في كل وادي النيل. هذا السبق السوداني من كرمة ربما ذكره عالم الآثار السويسري لجماعة من السودانيين، فضُخِّم وحُرِّف إلى سبق حضاري شامل.
بناء الأصرح الحجرية: يعود تاريخ أقدم هرم سوداني (هرم بعانخي في الكرو)، لحوالي سنة 716 ق.م. معنى ذلك أنه بعد أهرامات الجيزة بما يقارب الألفي سنة. والملاحظة نفسها تنطبق على المعابد. وأغلب الظن أن كل المعابد الموجودة في السودان والمصممة على الطراز المصري بنيت بأيدي مصرية أو تحت إشراف مهندسين مصريين. أما فن النحت وصناعة التماثيل فأقدمه يؤرخ للفترة النبتية ابتداءً من الفرن السابع قبل الميلاد، وهو يحاكي النماذج المصرية. لكن الفن السوداني أخذ منحًى محلياً في الفترة المروية (300 ق.م. – 350 م). أما المدن فقد قام في السودان القديم ومنذ حضارة كرمة عدد من المدن ذات طابع مدني واضح، مثل كرمة، صنب أب دوم( عاصمة نبتة)، مروي، النقعة، قصر إبريم، كرنوغ، فرص وغيرها.
أما التنظيمات الاجتماعية من نظم حكم وغيره فقد تأثرت بالنظم المصرية إلى حد كبير. فيما يتعلق بهذا الجانب ظهر مقال في مجلة "النيو يورك تايمز الأمريكية"، عدد مارس 1979 كان عنوانه بالإنجليزية:
Nubian Monarchy Called oldest: by Boyce Rensberger
"
صورة للمقال الإنجليزي
أشار فيه الكاتب إلى اكتشافات أثرية في موقع سوداني قديم يسمى قسطل (الآن في النوبة المصرية) أجراها سنة 1963 خبراء أمريكان. المكتشفات عبارة عن مجموعة مدافن مميزة لم يعثر على مثيل لها من الفترة الزمنية ( حوالي سنة 3300 ق.م.) نفسها. عثر الخبراء في أحد هذه المدافن على مُبخر مصنوع من حجر نوبي (أي مصنوع محليـًّا وليس مستورداً) على سطحه رسومات منحوتة تشير إلى رموز الملكية المصرية الفرعونية. النظرية التي طرحها خبير الآثار الأمريكي هي أن السودانيين في قسطل كانوا يعرفون نظام الملك الذي ساد في مصر فيما بعد ، ومعنى ذلك أن الملكية السودانية أقدم من المصرية. تعتقد الكاتبة أن هذا المقال كان له أكبر الأثر على الأمريكان السود الذين كانوا يروجون لنظرية تقول إن أفريقيا هي منبع الحضارة. بل وحاولوا جاهدين أن يثبتوا أن قدماء المصريين من أصل أفريقي.
بعد بضعة عقود من اكتشافات قسطل اكتشف موقع في مصر أقدم زمناً منه تمثلت فيه رموز الملكية الفرعونية بشكل أكثر وضوحاً. أما ملوك قسطل فلم يهنأوا بأحلامهم وتطلعاتهم لأكثر من تسعة عقود من الزمان، حيث جاءت نهايتها سريعة على أيدي معتدين من شمال الوادي يمثلون ملوك الأسرة المصرية الأولى.
أما الكتابة في السودان فقد بدأت مع ملوك الفترة النبتية (ملوك كرمة قبلهم لم يستخدموا التدوين على الإطلاق) مستخدمين اللغة المصرية. في حوالى سنة 200 ق.م. اخترع السودانيون (المرويون) نظاماً لكتابة لغتهم. في مصر تم الحدث نفسه حوالى سنة 3400-3200 ق.م. معنى ذلك أن ما ذكره المؤرخ الإغريقي ديودور الصقلي أن المصريين تعلموا الكتابة من السودانيين هو تقرير خاطئ لا يعتد به العارفون. وتعتقد الكاتبة أن فريقاً من ذوي الأصول الأفريقية استغلوا مقولة هذا الكاتب للترويج لسبق حضارة أمة سوداء هي السودان القديم. لكن بالرغم من كل ذلك، للسودانيين أن يفخروا بتوصلهم لنظام لكتابة لغتهم حيث يصُنف السودان كثاني أمة في إفريقيا تمكنت من كتابة لغتها. ولهم أن يفخروا بحسبانهم من الأمم القليلة التي بلغت مدارج راقية من التحضر وبقيت آثارهم صامدة شاهدة على أمجادهم وإنجازاتهم. أما اقتباسهم لبعض عناصر الحضارة المصرية فهو أمر بديهي، فمصر هي الجارة الشمالية للسودان، وكانت مصدر إشعاع ثقافي لكل العالم المعروف آنذاك.
***
قصة قصيرة
الحَجَر الأجْوَف
د. محمد صالح عبد الرءوف محمد
جلس بعيداً يراقب من يحفرون القبر وكأنهم يمزقون جسده بمعاولهم ويحفرون في قلبه بقدر ما يغرسون المعاول في الأرض...يراقبهم من وراء بحر الدمع الطامي في جفونه...يراهم يهتزون مثل ظلال الأشجار الجافة المكسورة على سطح الماء...الحسرة تمزقه وتجعله فريسة بين أنياب القدر القاسي.
وقف الناس للصلاة...لم يكن هو على وضوء لكي يقف بين المصلين على جنازتها...كيف يصلي عليها وهو الذي صلى لها...ما سجد سجدة إلا وسأل الله قربها...كيف يصلِّي عليها صلاة بلا سجود؟ وهي ما زالت تملأ آفاق بصره وأعماق بصيرته... كيف يصلي عليها وصوتها الدافئ في أعماقه لا يزال يناجيه... بماذا يدعو اليوم... لقد جف الدعاء في لسانه...
جلس منهاراً على كومة صغيرة، ربما تكون قبراً لطفل ما، لم يعش مرارة الحياة مثله... تمنى أن لو كان ذلك الطفل... ما أتعس الأحياء وأسعد الأموات... جلس كبنيان هدّه زلزال من قاعدته فانكسرت أعمدته وتناثرت أجزاؤه... أمسك بقطعة صغيرة قربه... حسبها جزءاً من أوصال جسمه المنهار... وجدها حجراً أجوفاً يملأ قبضة يده ولكنه فقد كثيراً من وزنه بفعل التجويف والحفر المنتشرة على سطحه...جعل ينقره مثلما يفعل النادم بأسنانه... يطرقه وكأنه يستأذنه لكي يحتويه في جوفه.
سمع صوتاً يناديه... التفت يمنة ويسرة فلم ير أمامه غير المصلين وليس وراءه غير قبور الموتى...إنه صوت قريب يكاد يصل مرحلة الهمس...الأموات يتكلمون!!!.
بدأت الدهشة المتعطشة تجفف دموعه لكي تتضح الرؤية أكثر...ليس ثمة أحد من الأحياء غير المصلين... ولولا أن كان الوقت نهاراً، لما صمد لحظة فالأساطير والخرافات التي سمعها في طفولته، ما زالت تملأ المكان بالأشباح والأرواح.
الصوت!! نفس الصوت يتكرر وكأنه ينبعث من لسانه لقربه ولكن لا أحد...جعل يدور حول نفسه مثل الساقية، ولكن بلا نواح مسموع... ربما يكون وقع الحزن على إلهام جعله يفكر بصوت عال...لا... إنَّه يعرف صوته تماماً كما يعرف أصوات أصدقائه، بل كل أفراد القرية ويميزهم بأصواتهم من وراء الجدران... ليس هذا صوت واحد منهم... ربما تكون الأساطير التي تروى عن المقابر صادقة ...وربما يكون الأسى المفعم جعله يعيش حالة من الهذيان...اتسعت عيونه أكثر بعد أن امتصت الدهشة كل ما فيها..
وبدأ الخوف كالثعبان يدب متعرجاً في نفسه التي شغلها الحزن... طفولته ما عاشت حاضره فهي تثير غبار أساطيرها في زحمة الحاضر المرير... كيف شقَّت هذه الذكريات طريقها الآن لتخرج من وسط الزحام إلى السطح الدامي والألم الممض؟.
لقد استحالت حياته اللحظة إلى كتلة من الحاضر المخيف المرعب، تحرك بلا شعور نحو المصلِّين والحجر الأجوف في يده.
الصوت: لا تخف يا هذا... فأنا مصدر هذا الصوت الذي أقلقك... ارتعشت يده... وسرت الرعشة في جسده كله فلم تبق شعرة إلا وانتصبت واقفة مثل أشواك القنفذ وكأنها تزود عن نفسه... مرت لحظة لم ير فيها غير الحجر الأجوف فصار طويلاً يعلو مثل الهضاب وثقيلاً يضغط على يده ويحطم أصابعه...
- أنت!! أنت !! أنت حجر يتكلّم ؟!.
(قال في نفسه): ربما تكون روح إلهام تملأ تجاويف هذا الحجر مختبئة من ملاك الموت لتطوف حول جسدها الفاتن الذي عشقه كل من رآه... ربما تكون روحها مثلي أيضاً... أسيرة هذا العشق فقد تعشق الأرواح أجسادها كما تقول كاهنة معبد دلف في الميثولوجيا اليونانية... أو كما يقول المذهب الأورفي.
دعني أسمع همس روحها قبل أن تعلو في رحاب السماء.
(صاح بأعلى صوته): دعني أناجي هذه الرَّوح أيها الملاك الطاهر قبل أن تصعد بها!.
ارتمى على الأرض ومد يديه كأنه يسبح باسطاً جناحيه يعدو وراء الملاك امتزجت دموعه بالتراب الذي غطى صفحة وجهه ... تأوه آهة عميقة أثارت الأرض غباراً حوله بدأ يتكلم بصوت جريح...
آه لقد تذكرت لحظة وفاتها صحوت من النوم مذعوراً... كانت إلهام تطاردني لتأخذ مني شيئاً لا أذكره...رفضت ذلك بشدة ولأول مرة أعصي لها أمراً... كانت تلاحقني وتصر في طلبها... صحوت فجأة والبكاء والعويل يعلو في سماء قريتنا... آه... لقد أدركت ما كانت تطلبه.. كانت تريدني أن أذهب معها...تطلب مني أن نموت معــاً، فكما تحكي الأمهات: إنَّ من يأخذ منه الميت شيئاً في الرؤيا يعني ذلك أنه يموت ويلحق به...
(نهض قليلاً ووضع وجهه بين كفيه وارتفع صوته صائحاً).
: لماذا رفضت طلبها حينذاك... ليتني أعطيتها ما تريد لنموت معــًا...كنا سنرقد هنا متجاورين ويحتفل بنا الموتى ليلة زفافنا وكالعادة فإنَّ أمثالنا من الموتى في قريتنا يحملون إلى المقابر وعليهم جريد النخيل والخضاب والحرير... نزف لنقضي شهر العسل في باطن الأرض... يبدو أنها خير من ظاهرها... فالقبر قد يكون روضة من رياض الجنَّة...
الحجر: لا تغرق في هذيانك أيها الفتى... أصغ إليَّ لحظة... لقد ظللت أناديك منذ أن انفض الناس عن المقابر وأنت غارق في أحلامك.
....انفض الناس! وتركوني وحدي في المقابر؟! لا أصدِّق..كيف تم ذلك؟ وكيف مضى الزمن؟ لقد أخذت إلهام عقلي بدلاً من تأخذ روحي...(صاح باكياً)... أيها الحجر... لا تخاطبني.. عقلي سيعود..إلهام ! إلهام ! ردِّي عقلي أعش به بين الناس... لن أحيا بين الحجارة... ردّي عقلي يا إلهام!!.
( تحرَّك نحو قبرها... يجر رجليه ببطء وهو يوشك أن يقع من شدّة الإعياء... بكى وبكى والحجر ما زال بيده...سقطت قطرة من الدموع واستقرت في جوف الحجر).
الحجر: قل لي ماذا يبكيك أيها الفتى؟!.
حسن: هذه الفتاة التي دفنت قبل لحظات...
(نظر إليها... رآها في ثوب الزفاف تفتح نافذة القبر... تمد يدها ملوحة تحييه وتناديه.
إلهام: تعال.. تعال يا حسن.. بإمكاننا أن نسعد الآن بحبنا أكثر..تعال يا حسن... تعال أعطني بقايا روحي التي معك... تعال امنحني حياتي التي سلبتها... لم أمت يا حسن ولكنني حللت فيك.. لقد آثرت أن أنفصل عن جسدي لأبقى معك شيئاً واحداً... وهاأنذا في أعماقك نبضة وقيثارة...لا تقتل النغم.. أعزف على تلك الأوتار تسمع صوتي في أعماقك يغرد مثل الكروان...
لا تبك يا حسن فأنا في الأعماق أغني لك... أنا لست في هذا القبر.. وإنما أطل عليك من نافذة قلبك أنت... لقد كان الناس ينبشون الثرى ليواروا جسدي بينما كنت أنا أحفر في قلبك لأواري روحي... وكنت أشعر بأنك تتألم من نبش أظافري..
(حسن يقترب من القبر)
إلهام- لا تثقب القبر بنظراتك يا حسن..فإنه خالٍ إلا من جسد عاد إلى أصله وأهله من ذرَّات الأرض.. أما ذاتي فلا تبحث عنها إلا في أعماقك!.
حسن- أعماقي!!... تقصدين ذكرياتي... لقد فقدت ذاكرة شبابي.. لم تبق في داخلي إلا ذكريات الطفولة بأساطيرها وخرافاتها... لقد سطا الحزن على حاضري وسرقه بكل ما فيه من آمال...
سأجوب الفيافي والقفار... البوادي والحضر... بحثاً عن هذه الذاكرة المفقودة... لن أحيا حبـًا من جديد... وسأظل أسعى باحثـًا عن ذاكرتي بين الأطلال وذابل الزهر... وأعدو وراء أوراق الأشجار المتساقطة الزاحفة مع الريح.. وسيكون هذا الحجر الأجوف غطائي وكسائي...
الحجر: من قال لك إنني حجر فقد كذب..في الحقيقة أنا لست حجراً...تأمل صورتي جيّداً تراني قلباً متحجراً... لقد كنت أنبض بالحياة في يومٍ ما في جسد فتاة حسناء رقيقة مرهفة الإحساس عاشت مكبلة بقيود التقاليد البالية التي كانت تعصف بي وتنخر في جسمي كالسوس حتى صرت بهذه الصورة التي تراني عليها مثل جسم خالد بن الوليد لم يخل موضع من طعنة نجلاء....غطيت هذه الجروح بدمائي وأنا أصارع هذا المجتمع المتزمت المارد القاسي حتى تمزقت أحشائي وتحجَّرت عواطفي وتصلّبت شراييني...فعوامل التعرية في داخلنا تنهش فينا مثل ضربات الموج على جلمود الصخر حتى ينهار...هذه هي حقيقة الحياة.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.